مقالات وكتاب

«الوجه الآخر».. عندما تمتزج متعة التاريخ بجماليات الرواية

17

للتاريخ مهابته وجلاله ومتعته وللرواية رونقها وجمالها ومذاقها الخاص بين ألوان الأدب، وهكذا تجمع الرواية التاريخية هذه السمات الجميلة من أطرافها. «الوجه الآخر» للكاتب عادل محمد الزنكي رواية تاريخية تدور أحداثها حول شخصيات حقيقية من الكويت تشمل ثلاثة أجيال متتالية وتمتد أحداثها من النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر. الرواية التي جاءت في 302 صفحة من القطع المتوسط نموذج للسرد الدرامي التاريخي الممتع البعيد عن الجمود.

يستهل الكاتب الفصل الأول من الرواية الذي جاء تحت عنوان «بواكير النشأة» بوصف رائع لمدينة الكويت التي تضج بالحياة قبيل شروق الشمس ثم تعود إلى السكينة بعيد أذان العشاء، بأهلها «البسطاء الطيبين الذين اكتسبوا من الصحارى وضوحها وانبساطها ومن البحر عظمته وسخاءه».

يقدم بعد ذلك شخصية تاجر اللؤلؤ أبو أحمد التي تمثل السمة السائدة في الكويتيين من النشاط والورع والحرص على العلم والالتزام والاستقامة، ثم يبدأ في سرد الأحداث بأسلوب بعيد عن جمود النصوص التاريخية حيث نتابع توثيق بدايات الكويت تلك المدينة الناشئة التي وجد فيها الكثير من سكان البوادي ضالتهم هربا من حياة الحذر والانتظار إلى الاطمئنان والاستقرار، وما صاحب ذلك من التخلي عن قساوة الحياة البدوية والتحرر من العصبية.

استعان الكاتب بحادثة بئر المياه العذبة التي رفض أبو أحمد أن تخصص لقبيلة دون أخرى لتكون درسا في ضرورة الابتعاد عن العصبية والقبلية بعد ذلك، وفي إشارة إلى علاقة الكويتيين في هذا الوقت بسكان المناطق المجاورة تأتي الرواية على علاقة أبو أحمد بالوالي العثماني في البصرة وكيف حضر على مجلسه وكان قريبا منه.

«لا تغضبوا الهنود » هذا ما قاله الوالي العثماني لابن رزق عندما قص عليه قصة الهندي وابنه والأفعى في محاولة لكسر الحواجز فيما بينهما وهو ما كان له بعد ذلك ، حيث أصبح من المعروفين والمقربين لديه، وهو ما تعزز من خلال صفقة الخشب والسفر إلى البصرة. وقبيل ختام الفصل يسوق الزنكي مشهدا يجسد حب الوطن عندما أهدى أحمد بن رزق بردته إلى صديقه الشاعر لأنه نظم أبياتا في حب الكويت. في الفصل الثاني «الوباء والهجرة» تناولت الرواية موضوعا مهما ألا وهو انتشار وباء الكوليرا في الكويت من بعد البصرة وتأثير ذلك في حركة الهجرات آنذاك.

يبدأ الفصل بالشاب خالد القادم من البصرة حاملا الخوف من الوباء الذي استشرى هناك بسبب الحمى وهروب الطبيب العثماني وبعد ذلك الخوف من انتشار العدوى في الكويت والتدابير التي تم اتخاذها للحيلولة دون انتشار المرض والحديث عن الحجر الصحي للقادمين ووفاة الشاب خالد وما تلاها من ازدياد مخاطر انتشار الوباء ثم اتخاذ قرار الهجرة إلى الإحساء وانتظار ان تزول الغمة بحلول الصيف وهو ما لم يحدث بل أصبحت الكوليرا أشد فتكا.

من المواقف المؤثرة هنا بطولة الشاب عيسى الذي قرر المشاركة في حماية الكويت من الوباء عن طريق مقابلة الآتين من البصرة وفحصهم وتطبيق الحجر عليهم وهو ما أدى به في النهاية إلى الوفاة بسبب الإصابة قائلا إن عزاءه في ذلك أنه جاء في سبيل حماية الآخرين وفداء لأرواح الكثيرين من أهل الكويت. ثم يكون قرار الهجرة من الكويت فرارا من هذا الهلاك فتكون حركة أبو أحمد وأسرته باتجاه الإحساء.

يختتم الفصل بالحديث عن الصراع العسكري بين الفارسيين ومملكة المنتفق والدولة العثمانية على مدينة وميناء البصرة وما يشير إليه ذلك من الرغبة في السيطرة على هذه المنطقة المهمة استراتيجيا المجاورة للكويت.

المجتمع الجديد

بعد فترة من المكوث في المهجر الإحساء بدأ أبو أحمد يفكر في الاستقرار بمكان جديد بعيدا عن تهديد الوباء في الكويت والبصرة وكذلك توترات الصراعات في المنطقة. في بداية الفصل الثالث «المجتمع الجديد الزبارة» يقع اختيار أبو أحمد بالتشاور مع الصديق خليفة على البحرين وتحديدا قرية الزبارة للجوء إليها لتناسبها مع مهنة التجارة والقرب من البحر، لتتوالى الأحداث بعد أن يقرر أبو أحمد الاستقرار في الزبارة وأن يجعل منها مدينة تجارية تكون محط الأنظار وتشبه الكويت التي تركها على مضض بسبب الوباء. يبدأ بمساعده ابنه أحمد ببناء قصره الكبير والمسجد وباستشراف للمستقبل يقرر مع أهل الزبارة الذين بدأت أعدادهم في التزايد رغبة في الاستقرار والاستفادة من هذا المجتمع التجاري الجديد، يقررون بناء سور للمدينة الوليدة لحمايتها من الأخطار الخارجية.

في هذه الأثناء يسافر الابن أحمد إلى الكويت لتفقد الأوضاع هناك بعد انحسار الوباء والاطمئنان على المنزل والمحل التجاري وهي الزيارة التي أثمرت الاتفاق مع التجار هناك على توسيع النشاط التجاري وتحويل السفن التجارية إلى ميناء الزبارة بدلا من موانئ عمان قبل أن يعود إلى الزبارة بعد أن أوكل أمر العناية بمنزله ومحله إلى الصديق أبو فيصل.

ما إن يعود أحمد إلى الزبارة حتى يحدد والده موعدا لزفافه الذي يتم سريعا وقبيل أن يرى ابنه الأول النور ينتقل والده أبو أحمد إلى جوار ربه. يكمل أحمد مسيرة والده في رعاية الزبارة والعمل على تنميتها فيتزايد عدد ساكنيها ونشاطها التجاري وتصبح مركزا رائجا في منطقة الخليج ويتم بناء سور ثان لحمايتها.

لكن دوام الحال من المحال فبعد أن نمت تجارة الشيخ أبومحمد احمد بن محمد بن رزق التي كانت تشتمل على اللؤلؤ وبضائع أخرى بدأ التوتر يسود المنطقة بسبب هجوم القبائل على بر قطر واقتراب الخطر منهم وهو ما دعاه إلى مغادرة الزبارة إلى جو القريبة ولكنها في الوقت نفسه أكثر أمنا.

كعادته حمل أحمد بن رزق الخير إلى جو كما يفعل في اي مكان يصل إليه وعمل على زيادة العمران والتنظيم فيها بعد أن شرع أول ما وصل في بناء المسجد كما فعل والده عندما وصل الكويت شابا وكذلك عند وصوله إلى الزبارة.

في جو عمل على تعزيز علاقته بالوالي العثماني في البصرة وبعث له بالهدايا وازداد علو شأنه وازدهرت التجارة أيضا لكن ذلك أثر على الموانئ العمانية، ما دعا حاكم مسقط إلى تسيير جنده للسيطرة على جو ومينائها وتجارتها لمصلحته، وهو ما تم بعد تفاوض مع احمد بن رزق الذي آثر عندها ألا يعيش في جو تحت إمرة أحد وشد الرحال مجددا إلى الكويت بعد أن أمر نواخذة سفنه بالإبحار إلى ميناء البصرة.

العودة إلى الوطن

في الفصل الرابع من الرواية «العودة إلى الوطن» يعود بن رزق إلى مسقط رأسه الكويت حيث مرتع الصبا والشباب وأرض الوطن الذي تحن إليه النفس في أي مكان لكنه بيّت النية على أن يستقر في البصرة ويترك ابنه محمد ليتابع تجارته في الكويت بعد أن يزوجه ويترك له بيت أبيه ليسكن فيه.

قابل صديقه فيصل عند عودته الذي رحب به أيما ترحيب وتذكرا معا أيام الطفولة في الكويت الحبيبة وسرعان ما حانت ساعة الرحيل بعد أن هيأ الأمر لابنه محمد وأعطاه مبلغا كبيرا من المال يستعين به في تجارته ليسافر الشيخ أحمد إلى البصرة في حماية جنود الوالي العثماني.

ينزل ابن رزق ضيفا على والي البصرة في قصره لمدة أسبوع ثم والي بغداد لمدة 3 أيام ولدى عودته إلى البصرة حدث أن اقتربت سفن حاكم مسقط من شواطئ البصرة وطلبت من حاكمها دفع إتاوة أو الدخول معها في مواجهة وهو ما أغضب الوالي لولا أن هدأ بن رزق من غضبه ونصحه بقبول دفع الإتاوة حقنا للدماء فاستفاد الوالي من حكمته وحنكته في الخروج من الموقف ثم لجأ إلى حيلة للتخلص من المشكلة نهائيا بأن اغتال قائد السفن المعادية.

أراد والي بغداد مكافأة بن رزق نظير تعاونه وخدماته فأمر بتخصيص قطعة أرض له حيث يريد ليبني فيها قصرا فاختار مكانا أقرب إلى الكويت حيث بنى القصر ومسجدا وحفر بئرا للماء العذب وكان قصره علامة مميزة حتى أن البحارة كانوا يدركون قربهم من الشاطئ عندما يرونه ثم حملت البلدة اسمها من وجود القصر فأصبحت تعرف باسم «أم قصر». بعد فترة من العيش الهانئ مع أبنائه في البصرة توفي الشيخ احمد بن رزق بعد أصبح كل من أبنائه له تجارته الكبيرة المزدهرة.

بعد وفاة والدهم بعدة سنوات وبسبب الصراعات السياسية في البصرة اقترح محمد على إخوته العودة إلى الكويت ليمارسوا نشاطهم التجاري من خلالها مينائها النشط حينها. بعد عودة إخوته عمل محمد بن رزق على مساعدة أخويه يوسف وخالد في الزواج ثم انقسم الإخوة مسافرين إلى كل من الزبارة وجوا لمتابعة أملاك والدهم.

بعد ذلك جاء واحد من أكثر أحداث الرواية مأساوية ألا هو انتشار الوباء في الكويت عام 1831 والذي أدى إلى وفاة ما يقرب من نصف السكان. في هذه الأثناء توفي محمد بن رزق وأمه وزوجته بسبب الوباء لتنقل الأحدث بذلك إلى الجيل التالي عبر ابنه حسين الذي تربى بعد أن تيتم في كنف عمه يوسف قبل ان يبلغ رشده ويتولى تجارة أبيه ويسكن قصره ثم يتزوج من ابنة عمه يوسف.

في الفصل الخامس «الجيرة والرضاعة مع آل سعود» سرعان ما تنتقل الأحداث مع الجيل التالي حيث عبدالرحيم بن حسين بن رزق، وهذا الفصل يتناول بصفة خاصة قدوم الأمير عبدالرحمن بن فيصل أمير الرياض إلى الكويت بعد ما حدث من استيلاء لابن رشيد على المدينة وما تلا ذلك من تطورات وتوترات وأحداث وكيف رحب به أهل الكويت وأميرها حينذاك محمد الصباح، حيث سكن بجوار منزل عبدالرحيم بالقرب من سوق المناخ.

ثم تتوالى الأحداث بعد ذلك في سرد تاريخي ممتع حيت تتابع المشاهد والمواقف التي تتراوح بين لحظات الإحباط الذي يقترب من اليأس من العودة إلى الرياض واسترداد الملك المسلوب ولحظات الأمل واليقين بأن الحق عائد إلى أصحابه لا محالة. لكن هذه الأحدث بينت مدى حب أهل الكويت لضيفهم وترحيبهم به وهو ما تجسد في المصاهرة التي تمت حيث زوج الأمير عبدالرحمن ابنه عبدالعزيز مرتين رزق من الزيجة الثانية بولده البكر تركي الذي كان أخا في الرضاعة لابن عبدالرحيم بن رزق من زوجته الثانية هميان.

نتابع أحداث معركة الصريف بقيادة الشيخ مبارك الكبير أمير الكويت آنذاك ضد ابن رشيد وكيف أخذ الملك عبدالعزيز آل سعود جزءا من الجيش لمهاجمة الرياض والاستيلاء عليها قبل أن يقرر العودة إلى الكويت بسبب عدم الاستيلاء على الحصن، وهو ما كان درسا بضرورة مهاجمة الحصن أولا.

بعد ذلك تتكرر أخوة الرضاعة مرة أخرى حيث يرزق الملك عبدالعزيز بابنه الثاني سعود عشية ذهابه على رأس مجموعة من جنوده وأنصاره لاستعادة عرش الرياض ونجد تزامنا مع مولد ابن آخر عبدالرحيم بن رزق وهكذا تستمر الأخوة.

الشخصيات

جاءت شخصيات الرواية ثرية وعميقة تحمل في صفاتها وسلوكياتها شيم أهل الخليج بصفة عامة والكويت بشكل خاص. كما انتمت الشخصيات لعدة أجيال متتالية غطت فترة زمنية طويلة نسبيا وهو ما أثر على سرعة إيقاع الرواية، حيث جاءت الأحداث بطيئة تفصيلية في الفترات الغنية بالأحداث، فيما كانت متسارعة في بعض الفترات الأخرى.

أبطال الرواية الأساسيين كانوا عائلة بن رزق بأجيالها المتتالية وكذلك أصدقاؤهم والمخالطون لهم من التجار في الكويت والمناطق المجاورة وثراء هذه الشخصيات نقل جانبا كبيرا من تاريخ الكويت البحري والاجتماعي، كما ألقى الضوء على مظاهر الترابط والتقارب بين أفراد المجتمع الكويتي منذ نشأته وروح التكافل والمحبة التي ساعدت على الانصهار وزادت من القدرة على مواجهة الصعاب.

الأماكن

غطت الرواية مساحة جغرافية كبيرة حظيت الكويت بالحظ الوافر من الوصف الدقيق منذ بدء نشوئها. كذلك تناول السرد التاريخي أوضاع المنطقة في أكثر من موضع في الزبارة وفي جوا وكذلك في مدينة البصرة، فضلا عن تناول الأوضاع السياسية وبعض الصراعات التي أثرت في المشهد وكذلك في حركة سكان المنطقة وقراراتهم بالاستقرار أو الترحال من موضع إلى آخر.

إغلاق
إغلاق