مقالات وكتاب
حتى لا يتحول العزاء إلى ضغط نفسي واجتماعي

بقلم: د.عصام عبداللطيف الفليج
يذكر أحد الطيبين أنه كان عندهم عزاء في فصل الصيف، ومعروف أن ساعات العزاء بالصيف أكثر من الشتاء، ولطبيعة الطقس الحار عندنا يكون الجهد مضاعف، وبعد أداء صلاة المغرب في المسجد، عاد أبناء المتوفي للديوانية للراحة لحين صلاة العشاء، وفجأة طرق باب المنزل، فخرج أحدهم ليفتح الباب، فوجد أحد الأصدقاء القدامى قادما من بعيد، فسلم عليه وقال: أعرف أن وقت العزاء عندكم قد انتهى، وأنا قد وصلت ولن أنتظر إلى الغد، وجئت أعزيكم. فرحبوا به وأدخلوه، وبقي معهم حتى أذان العشاء.
ذكرني هذا الموقف عندما سافرت إلى الرياض للمشاركة بعزاء أحد الأقارب، فكنا نجلس معهم من الصباح حتى أذان الظهر، وبعد الصلاة نعود للديوانية ثم ننطلق للفندق، ففوجئنا بدخول مجموعة من المعزين، وبقوا حتى وقت الغداء، ثم انصرفوا، وانصرفنا.
وجلسنا معهم بعد صلاة العصر وبقينا حتى أذان المغرب، وبعد الصلاة عدنا للديوانية، ففوجئنا بدخول مجموعة من المعزين، واستمر قدومهم حتى أذان العشاء، وبعد الصلاة عدنا للديوانية، ففوجئنا بدخول مجموعة أخرى من المعزين لفترة قصيرة ثم انصرفوا.
سألناهم عن ذلك، فقالوا: الوضع عاديعندنا، لأن هناك من يأتي من مدن بعيدة، ونفس الحال لدى النساء. وبالطبع يسبب ذلك الإرهاق والإجهاد لذوي المتوفي المباشرين، فلك أن تتخيل عزاء يبدأ من الثامنة صباحا، حتى التاسعة ليلا بلا انقطاع!
أما عند القدامى، وما زال بعضها قائم في الجزيرة العربية، وبالأخص في القصيم ونجد؛ فيكون العزاء في المقبرة فقط، ثم ينصرف الجميع إلى أعمالهم، ويتلقى ذووالمتوفي العزاء من الناس إما بالصدفة، أو بالذهاب إلى دكانه، وإما في المسجد.
والتقيت بشاب سبعيني صادفته في 3 عزاءات متوالية، وقد بدى عليه الإنهاك، فسألته: عسى ماشر؟ فقال: لقد تعبت من المواجيب، وبعد المغرب عندنا كم عرس، وبالليل عقيقة واحد من الربع.
يقول صديق قضى أكثر من سنة في العلاج بالخارج: أكثر شيء شعرت به خلال غربتي؛ أنني ارتحت من هذه المواجيب اليومية، عزاء.. عرس.. وليمة.. الخ، فقد كانت تؤرقني وتزعجني، وتجهدني كثيرا.
أما الإخوة الوافدين في الكويت وغيرها، أو المغتربين في أوربا وغيرها، فلظروف عملهم؛يتم تقبل العزاء من بعد صلاة العشاء شتاء، ومن بعد صلاة المغرب صيفا، حتى الساعة العاشرة ليلا أو أكثر بحسب توافد المعزين.وعادة يستأجرون صالة أو خيمة للعزاء، وكل الشكر لعائلة الميلم لتوفير هذه الصالة مجانا بالعديلية.
ومع تقدم الأحداث وكثرة الناس واتساع المناطق، بدأت الكثير من الجمعيات التعاونية بالمشاركة في العزاء بوضع لافتات توضيحية لمكان العزاء، لكن للأسف بعضها لا يضعها بالمكان الصحيح، وبعضها يكتبها بخط صغير أو غير واضح، وبعضها يكتبها بخط سيء!
واهتم البعض بوضع خدمة إيقاف السيارة (الفاليه) التي تفضلها النساء (لأجل الكعب والبرستيج)، ولا يحبها الرجال، لأن فترة انتظار إحضار السيارة يطول.
وقليل جدا في الكويت من يقدم القهوة (الدلة)، لكن تقديم الماء أصبح أساس في كل عزاء، ووجود كاسات وقناني البلاستيك سهل توفيرها في كل وقت وكل مكان. ومن الطرائف أنني دخلت عزاء أسرة ثرية جدا، وضعت عند باب الديوان صواني بها كؤوس ماء من الفلتر! وهناك من يوفر ماء زمزم، ولكن غير ثابت المصدر!!
وانتشرت ظاهرة لطيفة لدى النساء، وهي توفير كتيبات أذكار وأدعية ورقية شرعية ومصاحف يأخذها المعزون عند خروجهم.
ومما يؤسف له عودة ظاهرة الإعلانات في الصحف بأحجام ضخمة، سواء للنعي، أو للتعزية، أو للشكر، والتي توقفت فترة طويلة، ويتم فيها شكر بعض الشخصيات، وعند سؤال أحدهم: لقد شكرتم فلانا على العزاء ولكنه لم يحضر؟ فقال: لقد أرسل برقية تعزية! والناس من الإعلان توهمت أنه زارهم.
ومن الأمور اللطيفة تسابق الأقارب والأرحامبتقديم الغداء والعشاء أو الفطور لذوي المتوفي، وهذا لعمري تطبيق للسنة النبوية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد أتاهم أمر شغلهم”.
أما قراءة الختمة والعشاء الأخير، فهي عادة قديمة شبه اختفت.
ومن المتعارف عليه أن العزاء يبدأ من يوم الدفن، إلا أن البعض لا يعتبره من أيام العزاء، فيشق على نفسه وأقاربه، ويأخذ يوما رابعا.
ومن الملاحظات الإيجابية في العزاء حرص الشباب على الذهاب إلى المقبرة، والحصول على الأجر بالصلاة على الميت ثم اتباع جنازته حتى يدفن. وكذلك حرصهم على العزاء في الديوانيات.
ومع تطور التقنية الحديثة، فقد تم عمل موقع في الهواتف الذكية فيه أسماء المتوفين، مع العنوان والموقع الالكتروني (اللوكيشن) الذي يساعد في الوصول لمكان العزاء.
هذه مجموعة مواقف وآراء وعادات لتقديم العزاء، والكل يشهد أن الكويت هي الأكثر تنظيما لواجب العزاء، فهو يبدأ في الثامنة صباحا، وينتهي مع أذان الظهر، ويبدأ بعد صلاة العصر، وينتهي مع أذان المغرب،للرجال والنساء على حد سواء، وفي رمضان من بعد صلاة التراويح حتى الحادية عشرة ليلا.
وعموما هي عادة اجتماعية راقية، تحقق عدة أهداف؛ منها:
1) التواصل الاجتماعي.
2) تسهم في تخفيف المصاب عن ذوي المتوفي.
3) تيسر التقاء الأصدقاء في العزاء، وقد يكونوا لم يروا بعضهم منذ فترة طويلة،وكم رأينا من عناقات بين بعض ممن افتقدوا بعضهم.
4) التقاء أفراد العائلة، وبالأخص فئة الشباب، الذين كثير منهم لا يرو بعضهم إلا في المناسبات، ومنها العزاء.
5) وقد تساهم في تصالح المتخاصمين.
ولعلنا هنا نؤكد على أهمية مثل هذه الواجبات الاجتماعية، على ألا يكون أثرها سلبيا على المجتمع، مثل الزعل أو العتب لمن لم يحضر العزاء، أو الضغط النفسي والصحي لحضور كل عزاء، فهناك كثير من الناس يقرأ الوفيات، فإذا رأى عائلة أو قبيلة يعرف منها شخص ما، ذهب إلى العزاء، ويفاجأ أن من يعرفه غير موجود لكبر العائلة أو القبيلة، أو لبعد القرابة عن المتوفي، ولو جلس جميع أبناء الأسر أو القبائل في كل عزاء، لما كفتهم الصالات. وبحضوره كل عزاء سيساهم في ازدحام المواقف، وإرهاق ذوي المتوفي، ويكفيه اتصال أو رسالة هاتفية.
أسأل الله أن يرحم أموات المسلمين، وأن يأجر كل من سعى لهم ولذويهم، ولنتذكر أن الأهم من ذلك كله هو “الدعاء” للميت.