مقالات وكتاب
بعد أن تركها الأزهر.. هل تنتقل القيادة الدينية من السعودية؟!

بقلم: د.عصام عبداللطيف الفليج
عندما تولى جمال عبدالناصر الحكم بعد الانقلاب العسكري على الملكية في مصر، انقلب على أصدقائه، واتخذ الاشتراكية منهجا هو وزملاؤه، وبدأ بمصادرة الشركات الكبرى باسم “التأميم”، واستولى على العقارات، وأشرك المزارعين مع ملاك الأراضي قسرا، فتراجعت الصناعة والزراعة، وباع الفلاحون الفقراء الأراضي الزراعية بدل أن يزرعوها؛ وتحولت إلى عمارات، فانهار الاقتصاد، وازداد الشعب فقرا، بعد أن استلمها والخزينة المصرية دائنة بريطانيا وغيرها بالملايين، وكان الجنيه المصري أقوى من الجنيه البريطاني!
ومما قام به مصادرة أوقاف “الأزهر” المليونية، التي ينفق من خلالها على العلماء والمشايخ وطلبة العلم في مختلف محافظات وقرى مصر، وتكفل مبتعثي الأزهر لمختلف دول العالم، وأضعف قوته المالية والإدارية والعلمية والثقافية، ولا يخفى على أحد قوة الأزهر في قيادة العالم الإسلامي.
ثم اعتقل آلاف العلماء والدعاة ظلما وزورا وبهتانا، ممن رفضوا منهجه الفكري والسياسي في محاربة الدين من خلال تقويض دور الأزهر، وترسيخ الاشتراكية منهجا للبلاد، وتعرضوا للتعذيب والتنكيل والإعدام. وتعمم ذلك بالتوازي في العراق والشام وتونس وليبيا والجزائر.
هنا كان لا بد من بروز قيادة إسلامية أخرى تقود العالم الإسلامي بعيدا عن الصراعات السياسية، فبرزت السعودية في وقت مناسب، واستوعبت هي ودول الخليج العربي مئات العلماء والمشايخ من مصر والعراق والشام من الهاربين من بطش الأنظمة العسكرية آنذاك، وأنقذ الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله مئات الدعاة من الإعدام الجائر الذي مارسوه جمال والأسد وصدام، وفتحت لهم المملكة المجال للتعليم في الجامعات والتلفزيون ودروس الحرمين والمدارس والمعاهد التخصصية، حتى ظهر الجيل الثاني من العلماء والمشايخ السعوديين الجدد الذين أثروا الساحة الدعوية على مستوى العالم.
وبدل أن يكون لدى المسلمين أزهرا واحدا، صار لديهم عشرات الأزاهر التي تصدر العلماء.
وتصدرت السعودية الدعوة الإسلامية على مستوى العالم، وفتحت عشرات الجامعات والمعاهد الشرعية في جميع مدن المملكة، ومئات من المراكز الثقافية في مختلف مدن العالم الشرقي والغربي، والشمالي والجنوبي، واستمرت في استقدام العلماء من مختلف دول العالم الإسلامي للتدريس في جامعاتها ومعاهدها.
وكان لأولئك العلماء (الوافدين والمحليين) دورا كبيرا في التحذير من الأخطار الخارجية والغزو الثقافي والفكري، وتأكيد الدعم السياسي والمالي للشعب الفلسطيني، ورعاية المسجد الأقصى، والمطالبة الحثيثة بكل فلسطين كونها حق للمسلمين، وأن اليهود غزاة محتلين، والكيان الصهيوني لا اعتبار له.
كما كان لأولئك العلماء دور كبير في حماية السلطة السياسية، ومحاربة التكفيريين ومواجهة المغالين، وكانوا سندا للحكومة في مواقف وطنية كثيرة.
ومع دخول الألفية الثالثة، والتغيرات السياسية والاقتصادية حول العالم، ومشروع خارطة الشرق الأوسط الجديد التي أعلنتها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق د.كوندليزا، جاء التدرج في حصار القيادة السنية للعالم الإسلامي بما يسمى “الهلال الشيعي”، وسط انسحابات واستسلامات من عدة دول، مما أرغم السعودية لتغيير خططها عدة مرات لمواكبة الأحداث والتغييرات المتسارعة على الساحة، باتجاه العراق وسورية ولبنان واليمن، مما سبب لها ضغوطا سياسية وعسكرية ومالية كبيرة.
وخلال هذه الفترة بدأت تغييرات في الخطاب السعودي، وهي هنا أمام أمرين: إما أنها تؤكد حجم الضغوط العالمية وعدم قدرتها على مواجهتها، وإما أنها تنفذ تغيير استراتيجي حقيقي في المنطقة بقناعة منها، كالتحول نحو الانفتاح والليبرالية.
وحتى لا أطيل في السرد العام، سأذكر بعض الملامح التي تبين التدرج في المنهجية الناعمة للانتقال نحو الليبرالية:
• إعلان الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله الموافقة على حدود 1967م لفلسطين مع الكيان الصهيوني.
• اعلان وزير الخارجية السعودي السابق الأمير سعود الفيصل رحمه الله أن الليبرالية هي الأصلح.
• زيارة الجنرال أنور عشقي لإسرائيل، وثنائه عليها.. الخ.
• الانتقاد الإعلامي المتكرر للعلماء وليس للموضوع، وبأسلوب ساخر، دون إفساح المجال للرأي الآخر، أو الشرح.
• انتشار التمثيليات التي تنتقد كل ملتزم دينيا بلا ضوابط (طاش ما طاش نموذجا).
• تصدر الليبراليين وسائل الإعلام بشكل انتقامي من التيار الديني، وكأن بينهم ثأر، دون أي مراعاة للقيم الاجتماعية ولا الدينية ولا حتى الفكرية والثقافية.
وغير ذلك كثير.. يراه أي متابع للشأن السعودي، فهل يكون ذلك سببا لانتقال القيادة الدينية منها إلى دولة أخرى، كما حصل مع الأزهر؟!
وأنا هنا لا أقول ذلك مؤيدا أو معارضا، فهذه سياسة بلد هم أدرى بها، وكل دول الخليج سبقتها في ذلك كله (أعني في الانفتاح)، ولكنه تحليل مختصر جدا لمرحلة مفصلية في تاريخ المملكة، تتجه فيها تدريجيا نحو الليبرالية، يرى الكثير من الناس فيها الغرابة، ولكنها طبيعة الحياة التي ينبغي أن نتفاعل معها إيجابيا وبهدوء وحكمة، فيما يحفظ ديننا وقيمنا وأبنائنا، وأهل مكة أدرى بشعابها.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المملكة العربية السعودية لكل خير، وأن يبصرهم بما هو صواب، وأن يحفظ السعودية من كل شر.
د.عصام عبداللطيف الفليج