مقالات وكتاب
ذكاء “وعد بلفور”.. وغياب الشمس
بقلم: د. عصام عبداللطيف الفليج
لم يتفق المؤرخون السياسيون على تحليل سبب إعطاء “بلفور” وعدا لليهود بأرض فلسطين وطنا لهم، خصوصا إذا علمنا أن الوعد كان مثار خلاف وانقسام داخل حكومة بريطانيا آنذاك، حتى الوزير اليهودي الوحيد في تلك الحكومة كان يرى أن إنشاء وطن قومي لليهود سيقوض من الجهود المبذولة لتحقيق المساواة بين اليهود وغيرهم! (أ.د.آفي شلايم – جامعة أوكسفورد).
وليس بغريب بعد ذلك أن يحظى وعد بلفور بتأييد عدة دول، قبل معرفة تفاصيله، وحتى قبل نشره، مثل: أمريكا وفرنسا وإيطاليا واليابان.. ودول أخرى، والمجلس الأعلى لدول الحلفاء في مؤتمر سان ريمو، وأخيرا موافقة عصبة الأمم المتحدة.
ولم تأت هذه النتيجة ببساطة، بل هي كفاح يهودي سري لسنوات طويلة مضت، نتج عنه تأسيس “الحركة الصهيونية العالمية” في بازل (سويسرا، 31-29 أغسطس 1897م) من خلال البودابستي النمساوي الروائي الصحفي القانوني د.ثيودور هرتزل، الذي تبنى رفض اندماج اليهود في مجتمعات أوروبا، وضرورة اثبات وجودهم كشعب مستقل، له أرض ووطن. فكان كمثابة من وضع حجر الأساس لهذا المشروع التاريخي الخطير.
وأصبح القرار أمرا واقعا بقوة السلاح البريطاني بشكل خاص، ودعم سري من العديد من الدول الأوربية، الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، ثم أضحى الدعم علنيا بعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة، ثم أمسى الدعم عربيا بعد “كامب ديفيد”!
وتم بعدها استحداث مصطلح “معاداة السامية” لكل من لا يوافقهم، فأصبح هذا المصطلح المائع تهديدا مبطنا وتلويحا لكل مخالف، ولكل من يتهم اليهود بشيء ما!
لقد تمتع آرثر جيمس بلفور، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (1902- 1905م)، ثم وزير الخارجية (1916 – 1919م) بذكاء حاد عندما أعطى اليهود وعدا بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، سواء كان مسيحيا حقيقة، أو يهوديا متخفيا، فليس الهدف هو التخلص من تواجد اليهود في بريطانيا بشكل خاص، وأوربة بشكل عام، بقدر ما كانت خطة “حرب بالوكالة” بعيدة المدى، نرى بوادر نتائجها الآن، أي بعد مرور 100 عام على الوعد.
كلنا يعرف أن اليهود لا يعترفون بالمسيحية والإسلام كونها ديانات أتت بعدها، والمسيحيون لا يعترفون بالإسلام كونه دين جاء بعدهم، ويعترفون باليهودية كونها ديانة أتت قبلهم، والإسلام يقر باليهودية والمسيحية كونها ديانات قبله، ولعل هذا يفسر سبب كره الديانتين للإسلام، ولكن الغريب تعاون اليهود مع المسيحيين في السياسة العالمية.
وهذا يؤكد أن الهدف الأساس لديهما هو “المال” فقط، وهذه الزعامة السياسية والحربية تحقق لهما أموالا طائلة لا حدود لها، ولم يعد ذلك خافيا على أحد، فقد أصبح الكلام في ذلك علنيا في السنوات الأخيرة، فالسياسيون يستغلون الدين لتحقيق أهدافهم، والكنسيون والرهبان يستفيدون من السياسيين بتعزيز سلطتهم.
لقد تعبت بريطانيا كثيرا من الحروب الداخلية والخارجية، بعد أن سيطرت على العالم من مشرقه إلى مغربه، فكانت “الدولة التي لا تغيب عنها الشمس”، وكانت نواة دولة كبرى اسمها أمريكا، وكأن لديها استشراف المستقبل بحروب قادمة ستنهكها اقتصاديا وبشريا، وأن تفكيك سيطرتها تدريجيا قادم لا محالة، مع تراجع أثر الكنيسة في المجتمع، وارتفاع معدلات سيطرة الربا اليهودي في أوربا، والابتزاز المقابل له، كان من الذكاء بمكان نقل الحرب إلى دول وقوميات أخرى، فانتقلت قيادة العالم إلى أمريكا طواعية، وجعلت إسرائيل تحارب عنها بالوكالة في فلسطين وما حولها، تمهيدا لموعد نزول المسيح الذي ينتظرونه في تلك البقعة المباركة.
وها هي الآن الدول العربية تستسلم الواحدة تلو الأخرى للكيان الصهيوني، وبقيت دولة واحدة ينتظر الجميع إعلانها السلام مع إسرائيل لينفرط العقد، وتتسابق باقي الدول العربية والإسلامية إلى اليهود طواعية، حفاظا على بقاء دولهم من الزوال، كما حصل مع فلسطين، وكما هو متوقع مع بعض دول الجوار، فكان “وعد بلفور” إدارة عن بعد لحروب بالوكالة.
نعم.. قد في ذهننا هو “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، ولكنهم يرون أنفسهم يملكون العالم، واليهود في نظرهم يستحقون المنحة ليقوموا بباقي الأدوار عنهم.
وبالطبع.. اليهود ليسوا بأغبياء إلى هذا الحد، ولكنه تبادل المصالح بين الطرفين، وفي ساعة الخلاص والنزول المنتظر، سنرى كيف يتخلصون من الآخرين، لأنهم شعب الله المختار، والباقي عبيد وأتباع لهم.
أما نحن فليس لنا سوى انتظار المهدي المنتظر، فقد وصل الحال إلى ما لم يتصوره أحد، من تخاذل المسلمين وتراجعهم واستسلامهم وضعفهم، والدعاء بأن الله يسلمنا منهم.
لذا.. يحق لبريطانيا الاحتفال بذكرى الوعد المئوية لأنها حققت أهدافها، فيما ينتظر البعض الاعتذار عن إصدار الوعد، في قضية الظلم فيها بات واضحا وضوح الشمس، إلا أن الغيوم غطت أوربا كلها، فلم يعودوا يروا ذلك الظلم، فغابت شمس العدالة.
أسأل الله أن يعجل بفرج المسلمين في كل مكان، في فلسطين والشام والعراق واليمن وليبيا وأفغانستان وماينمار.. وغيرها، وأن يحقن دماءهم، ويصون أعراضهم، وأن يأمنا في أوطاننا سالمين غانمين.