مقالات وكتاب
القطن
بقلم: الكاتب فيصل الزامل
أدت الثورة الصناعية في أوروبا في القرن السابع عشر إلى انتقال صناعة المنسوجات من الإنتاج الصغير إلى الإنتاج الضخم بسبب استخدام الآلات المتطورة بدلا من الصناعة اليدوية، في مراحل الغزل والحياكة وترتيب حركة سير الخيوط ولف الأنسجة، بسرعة ودقة كبيرة الامر الذي رفع الطلب على المواد الأولية كالقطن والصوف، وبالنسبة للقطن فإنه لم يكن يزرع في أوربا، وكانت البلاد الجديدة في امريكا الشمالية تحتوي على مساحات شاسعة، وبالذات في المناطق الجنوبية من الولايات المتحدة، مثل ولايات جورجيا، كارولينا الشمالية والجنوبية، لويزيانا، … الخ، ومع ازدياد الطلب على هذه السلعة توسع المهاجرون الأوربيون في إنتاج القطن الأمر الذي احتاج إلى زيادة الأيدي العاملة الرخيصة وكان هذا سببا لرواج تجارة العبيد، فنشط العاملون بهذه المهنة في خطف سكان القرى في سواحل غرب افريقيا، ونقل في الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تم نقل 12 مليون شخص من إفريقيا، بين رجل و امرأة إلى الأمريكيتين، وبلغ تعدادهم في الولايات المتحدة عام 1860 حوالي 4 ملايين شخص، وفي عهد الرئيس إبراهام لنكولن أصدر قرارا تاريخيا بإلغاء العبودية فاندلعت الحرب الأهلية بين الشمال المؤيد لهذا القرار والجنوب حيث الاراضي الزراعية الشاسعة.
استمرت الحرب أربع سنوات بين عامي 1861 و 1865، وتوقفت زراعة وتصدير القطن إلى أوربا ما أدى الى تهديد هذه الثروة التي كانت تشكل عماد الاقتصاد الإنجليزي، وكانت مصر من الدول التي تنتج محصول قطن عالمي مميز، طويل التيلة، حيث شهدت مصر في فترة حكم محمد علي باشا 1845 – 1805 نهضة صناعية وزراعية شاملة، وقامت عدة صناعات رديفة لزراعة القطن مثل صناعة آلات حلج وكبس القطن، وتجهيز النيلة للصباغة، ومعاصر الزيوت، ومصانع لتصنيع المواد الكيماوية، واستطاع محمد علي أن يعزز قاعدة الصناعات التحويلية المتعلقة بالغزل والنسيج بكافة أنواعه، وأقام مصانع للنسيج، وكان أول مصنع حكومي في مصر هو «مصنع الخرنفش للنسيج» أسسه عام 1816، وأيضًا أنشأ «مصنع الجوخ» الذى جلب له خبراء من بريطانيا وإدارة تلك الصناعة فى مصر، وكان الغرض من إنشاء مصنع الجوخ هو توفير الكسوة العسكرية للجيش المصري، هذه الخطوة لفتت انتباه الخبراء البريطانيين نحو مصر كمصدر لتجارة القطن لمصانعهم.
ثم، مع توقف الإمدادات من الولايات المتحدة من القطن لبريطانيا بسبب الحرب الأهلية عام 1861 اتجه الانجليز نحو تشجيع المستثمرين المصريين للتوسع في زراعة القطن و تصديره الى بريطانيا، الأمر الذي زادت معه معدلات إقراض البنوك الانجليزية لهؤلاء المستثمرين وحيث كانت تقدم لهم القروض الكبيرة اعتماد على ارتفاع أسعار القطن عالميا بسبب الحرب الامريكية التي انتهت بعد اربع سنوات وهي فترة غير كافية لتغطية مصاريف انشاء المصانع الضخمة التي تم تمويلها بسخاء من البنوك الإنجليزية بدعم من الأسعار المرتفعة للقطن المصري، فلما انخفضت تلك الأسعار الى أقل من النصف بعد عودة تصدير القطن الأمريكي واجه المستثمرون المصريون مشكلة كبيرة جدا في الوفاء بالقروض وفوائدها التي تراكمت بشكل متسارع نظرا للحجم الكبير لالقتراض من البنوك الأوربية بشكل عام، والإنجليزية منها بشكل خاص.
قناة السويس
كان الإنجليز يتابعون قيام فرنسا بشق قناة السويس خلال عشر سنوات 1869 – 1859 في فترة حكم الخديوي محمد سعيد الذي منح الفرنسيين حق امتياز استثمار القناة بشروط مجحفة لمصر، وأسهم في حفر القناة مليون مصري مات منهم 120 ألف أثناء أعمال الحفر نتيجة الجوع والعطش، وكانت المنافسة بين بريطانيا وفرنسا على مصر في ذروتها وبالذات بعد قيام الجمهورية الفرنسية عام 1870 مقابل النظام الملكي في بريطانيا، وكان احتلال الإنجليز للقناة يشكل ضربة مزدوجة تحقق من خلالها بريطانيا سداد الديون لبنوكها، ودحر المنافسة الفرنسية، والأهم من ذلك هي السيطرة على أهم ممر بحري في العالم في ذلك الزمان الذي يسهل وصول بريطانيا الى مستعمرات الشرق، تحديدا الهند و استراليا، وتوفر المبرر لذلك الغزو في موضوع استخدام إيرادات القناة لسداد الديون الضخمة.
بدأ التمهيد للاحتلال عبر مقالات نشرتها الصحف الإنجليزية تجهز بها الحكومة الرأي العام البريطاني لفكرة غزو مصر، واستخدمت الصحافة للمرة الأولى في هذه المهمة الاستعمارية، فقد كان اهتمام الصحافة البريطانية منصبا قبل هذا الغزو بالدرجة الأولى على شؤون الأحزاب وأحوال الداخل البريطاني، ولكن لأهمية الشأن المصري والذي أطلقت عليه الصحف البريطانية فيما بعد “المسألة المصرية ” أوعزت الحكومة البريطانية للصحف الموالية والمعارضة لها أن تقوم بعمل نوع من المناظرة بين المؤيدين و المعارضين لفكرة تدخل بريطانيا في ” المسألة المصرية “أي الشأن المصري مبكرا جدا منذ عام 1877، وذلك للتغلب على أية معارضة للغزو عندما تحين اللحظة المناسبة.
وقد أفلحت الصحافة إلى حد كبير في تحقيق هدفها، مثلاً كان اللورد “جالدستون” معارضا للغزو في أغسطس 1877، ثم تحول مؤيدا له في 1882، حيث كتب سابقا بعنوان ” العنف في مصر وحرية الشرق” منتقدا استحواذ بريطانيا على ممتلكات في مصر، ومحذرا الحكومة من الغوص في ” المستنقع المصري” ومعاداة المسلمين، ثم تحول إلى تأييد قرار غزو مصر عسكريا عام 1882، ويبدو أن الكساد الاقتصادي في بريطانيا بسبب الحرب الأهلية الأمريكية كان أحد أهم أسباب تغيير جالدستون لرأيه، وكتبت التايمز في مطلع 1882
“من الواضح جدا أن قناة السويس مهمة للإمبراطورية البريطانية أكثرمن أية قوى أوروبية أخرى، وعلى ما يبدو فإن القارة الأوروبية كلها تستمتع بمعضلة الجزيرة البريطانية عبر سيطرة شركة فرنسية على مقدرات طريق الهند ” و ” فمن وجهة نظرهم تشكل المسألة المصرية عاملا مهما في توازنات القوى الأوروبية ، وهذا الوضع الذي يقيد بريطانيا هو مناسب جدا لفرنسا وألمانيا و يجد دعما من روسيا والنمسا وإيطاليا، ومن كل الأمم الأوروبية المتحمسة للتوسع الإمبريالي مما يجعلنا قلقين جدا من نوعية التحالفات التي ستحدث في الحرب الأوروبية المقبلة والتي ستمتد على خريطة العالم بامتداد العلاقات الأوروبية فيه “
لاحظ، إشارة الصحافة الإنجليزية إلى حرب أوروبية قادمة في عام 1882 أي قبل اندلاع الحرب العالمية عام 1914 بحوالي 32 سنة.
بعد هذا التمهيد الإعلامي للغزو، بدأت مدافع الأسطول البريطاني بضرب الإسكندرية لمدة عشر ساعات متواصلة حتى سوتها بالتراب؛ لإحداث أكبر قدر من الخسائر المادية، تلا ذلك الإنزال البري ثم اتجهت القوات الإنجليزية نحو القناة وأعلنت سيطرتها عليها، وقد استلزم انجاح الحملة البريطانية الصحفية استخدام أسماء مصرية كرموز لمعارضة الإنجليز مثل أحمد عرابي، الذي تصدرت صوره الصحف البريطانية، في إطار حملة تأليب الرأي العام البريطاني على مصر ممثلة بأشخاص مثل عرابي.
الخبرات و التجارب التي نستفيدها من هذه الحوادث :-
1 – الرغبة في الهيمنة على الشعوب والاستيلاء على مقدراتها يكمن وراءه في الغالب باعث اقتصادي، ولايغير من هذه الحقيقة أن يتم تلبيس الأمور برداء أيديولوجي أو ديني أو عرقي، فقد استفاد الاتحاد السوفييتي من الجمهوريات الآسيوية اقتصاديا، فقد ركز على زراعة أوزبكستان للقطن ، وبقية المحاصيل، واستخدم نفط كازاخستان واذربيجان وهكذا، كما استفاد من شعوب تلك الجمهوريات في الخدمة العسكرية المتدنية بالجيش الروسي، الذي يحتل فيه الروس الرتب العالية ويكون القوقاز والأوزبك والتركمان وغيرهم في الرتب المتدنية .. الخ.
2 – استدراج الدول نحو الاقتراض وتحويلها إلى مدينة هو المدخل لاخضاعها للقرارات الاستعمارية، في السابق كان القطن واليوم قروض البنك الدولي وغيره من البنوك التي أفقرت دولا نامية وتفتقر إلى نقل الخبرات والمهارات الحديثة لاستثمار مواردها الطبيعية الثمينة، ما أدى إلى فشلها في الإفادة من تلك الموارد بالشكل الصحيح، ولن تستثني تلك القروض حتى الدول النفطية التي يتم دفعها نحو الاستدانة لاستخدام المال بشكل غير مجدي، وتسهيل حصولها على قروض تعجز عن سدادها، فيسهل الإملاء عليها في كل شؤونها.
3 – ظلم الشعوب عاقبته وخيمة، فقد اندفع الأوربيون واليابانيون نحو نهب مقدرات جميع القارات (إفريقيا – الشرق الأوسط – جنوب شرق آسيا – أمريكا الجنوبية بالإضافة إلى قهر سكان استراليا الأصليين )وكانت النتيجة اندلاع حربين عالميتين في أوروبا أكلت الأخضر واليابس، وابتلعت ما جاءت به الحقبة الاستعمارية وأضعفت بريطانيا حتى انسحبت طواعية من مستعمراتها، وتسببت لليابان في دمار لم تعرف البشرية مثيلا له.
4 – أدى الاستضعاف للشعوب الفقيرة إلى زيادة عجزها وفقرها فانفتحت أبواب الهجرة على مصراعيها نحو أوروبا وأمريكا، وأصبح ملف الهجرة وخلل التركيبة السكانية في الغرب هو الشغل الشاغل للمخططين الاستراتيجيين في الغرب.
5 – قلة دراية الشعوب والدول النامية لا تقتصر على الجانب الإداري والاقتصادي، ففي ظل غياب الوعي يتم تصوير المخلصين من أبناء تلك الدول على أنهم أشرار ليتم شل حركتهم، وينخفض عطاؤهم الذي تحتاجه شعوبهم، فيكتفون إذا سلموا من السجن والقتل ، إما بالصمت أو الهجرة.
6 – تم استخدام الإعلام المقروء – في الماضي – لإعداد الرأي العام الغربي كي يقبل تلك الممارسات، وقد اضيفت اليه بقية وسائل التاثير الحديثة.. لتضليل حتى شعوب الدول الغربية التي اذا اكتشفت تلك الممارسات فستغضب، ولهذا تنفق شركات السلاح بسخاء على وسائل الاعلام والمنظمات ذات التأثير على القرار لتدفع بالممارسات الخاطئة التي لا تفيد أيا من شعوب الأرض سوى زعامات واهمة، لا تتعظ بغياب إمبراطوريات كثيرة دفنت غرورها رياح الحقيقة الأزلية، التي تقول
(إن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة)
7 – في ذروة أزمة الديون في مصر إبان حكم الخديوي إسماعيل التقى علماء الأزهر، وطلب منهم الدعاء لكي تنكشف الأزمة المالية عن مصر، ومر زمن، فلما التقاهم مرة ثانية قال لشيخ الأزهر ” هل أنتم علماء الأزهر فعلا؟ طلبت منكم الدعاء لتنجلي عنا هذه الغمة، فلم تنكشف ؟ فقال له شيخ الأزهر:- نعم، نحن علماء الأزهر، وقد قرأنا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ” لَتَأْمُرُنَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِطَنَ اللَهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلَيَسُومُنَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، لَتَأْمُرُنَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُن عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَبْعَثَنَ اللَهُ عَلَيْكُمْ مَنْ لا يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ، وَلا يُوَقِر كَبِيرَكُمْ “.
المعنى المباشر للحديث .. احذر من السلبية ، فقد تغرق السفينة اذا تركت العابث سادرا في غيّه قال النبي صلى اهلل عليه وسلم: –
((مَثَلُ القَاِئم في ُحُدودِ اللَّه واْلوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينٍَة، َفأَصابَ بَْعُضهم أعْلاهَا، وبعُضهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَُّروا على مَنْ فَوَقهْم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في َنِصيبَِنا خَرقا وَلمْ ُنؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَُكوُهمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِِهْم نََجوْا ونََجوْا جَميعا))