مقالات وكتاب
أحبوا إخوانكم وأصدقاءكم فربما تفقدونهم!
بقلم: عبدالرحمن المسفر
حياتنا بمختلف مراحلنا العمرية رحلة في دنيا تضج بالحوادث والبشر والتجارب وثمة ذاكرة تختزن وترصد وتحلل وتسترجع، وخير الذكريات صديق يحبك لذاتك متجردا من مصلحة أو منفعة، أخ كما تقول العرب : لم تلده أمك، ولكنه يتقاسم معك الحزن والفرح، يمتعك بإطلالته وحديثه، يتمنى لك الخير ويسعى لجلبه لك، ويدفع عنك الشر بكل ما أؤتي من قوة الرأي والمال والجاه والأهل والأنصار، حتى يزول عنك الهم والغم، وتعود إليك نسمات الطمأنينة وتكسو محياك إشراقة الفرح وترتسم على شفتيك ابتسامات الراحة والسكينة، وقد جاء ذكر أمثال هؤلاء الصحب النادرين الكرام في محكم التنزيل : «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة».
لعمري إن صديقا واحدا بتلك الصفات، لقادر على إدخال البهجة في نفسك وإعانتك على مواجهة الأمواج العاتية وأهوال ما تحيكه شرار النفوس من مكائد وعداوات ومصائب، فما بالك إن كان ذلك الصديق هو شقيقك من أمك وأبيك، فأنعم به من صاحب وأخ ونديم وخليل، فعليك إن وجدت «الأخ الصديق» أن تحمد الله على هذه النعمة العظيمة، ولا تفرط بها، فنحن في أحيان كثيرة لا ندرك قيمة أشخاص حولنا إلا حين تفقدهم ويرحلون عن دنيانا، أو عندما تشاء الظروف أن نجرب غيرهم، فحينئذ نعرف الغث من السمين والجيد من الرديء، وقد لا ينفع وقتها الندم أو عض أصابع اليد من حرقة الحسرات.
قبل ثلاثة أشهر غادر حياتنا إلى مثواه الأخير شقيقي الدكتور محمد، أسكنه الله فسيح جناته وجعل قبره روضة من رياض الجنة، ذهب عنا مبتسما، راضيا ومرضيا، مخلفا وراءه حشدا من الدموع النائحات والذكريات الجميلات، كان رجلا شهما، حائزا لخير الفضائل والشمائل، مبسوط الكفين، طيب النفس والمعشر، عفيف اللسان ودائم الإحسان، طاهر القلب واليدين، صاحب حديث نافع وممتع، يشد من عضدك في الشدائد، ولا يتركك منفردا في محنة أو عارض أو مرض، ولولا الحياء وسلامة الاعتقاد، لقلت : حاشا لله ما هذا من جنس البشر، إنه ملك في صورة إنسان.
الراحل الشقيق «بوأحمد»، حفر بالحب والمروءة أثرا عميقا في ذاكرتنا، لا يمكن أن يُمحى أو يزول مع توالي الأيام أو دوران عجلة الزمن، فله محطات مضيئات تصاحبنا منذ أن كنّا صغارا حتى أصبحنا كبارا، ما زلت أتذكر نصائحه بالعفو والتسامح وملاقاة المسيء بالإعراض عنه أو دوام الإحسان إليه، لعله يتذكر أو يخشى، لم أنس عطاءاته السخية بما تجود به يداه، رغبة في توثيق عّرى التحاب والتواصل، وكم كان موقفا مزلزلا حين أتاني ابن الفقيد- رحمه الله – أحمد بعد انتهاء العزاء حاملا بيده حقيبة أنيقة، وقال لي وعيناه تترقرقان بالدموع: «عمي هذه هدية من الوالد -رحمه الله- كان يود إعطاءك إياها يدا بيد، ولكن المنية كانت أسرع».
في مشوار بناء علاقاتي مع الأصدقاء المخلصين، وهبني الله جمعا طيبا من الأحبة من جنسيات متعددة، بعضهم ما زلت أتواصل معهم رغم تباعدالأوطان والمسافات، وبعضهم لا تستريح النفس والعين إلا بمشاهدتهم ومجالستهم وتبادل الأحاديث معهم، وهناك قلة آخرون غادروا دنيانا وغيبهم الثرى، بيد أنهم مازالوا يسكنون بداخلنا ذكريات ومشاعر، ولله درك يا شريط التذكر، كم أجبرتنا على سكب الدموع في هجعة الأنام من المآقي والقلوب، حزنا على فراق من كان سلوة لخاطرنا وبلسما لجراحنا وأنسا لصحبتنا … وليس لنا إلا أن ندعو الله أن يُقوِّي من عزائمنا على فقد من طابت عشرتهم وزكت مسيرتهم .
أخيرا: كل شيء يزول إلا عملك الصالح، وما خلفت بعدك من ينابيع الحب التي تغمر بها محبيك من الإخوة والأصدقاء، فكن نسمة عليلة وطيفا وديعا، كي تنحت ذكراك العطرة في ذاكرة الآخرين حيّا وميتا.