مقالات وكتاب

اللص الفقيه

بقلم: د. عصام الفليج

خرج قاضي أنطاكية ليلاً إلى مزرعةٍ له، فلما سار من البلد اعترضه لص، فقال له: دع ما معك وإلا أوقعتُ بك المكروه.
فقال القاضي: إن لأهل العلم حرمة، وأنا قاضي البلد، فَمُنَّ عليَّ.
فقال اللص: الحمدلله الذي أمكنني منك، لأني منك على يقين أنك ترجع إلى كفاية من الثياب والدواب، أما غيرك فربما كان ضعيف الحال فقيراً، لا يجد شيئاً.
فقال له القاضي: أين أنت مما يُروى عن رسول الله ﷺ: «الدين دين الله، والعباد عباد الله، والسنة سُنَّتي، فمَن ابتدع فعليه لعنة الله»، وقطعُ الطريق بدعة، وأنا أشفق عليك من أن تدخل تحت اللعنة.
فقال اللص: هذا حديث مُرْسَل، لم يُرْوَ عن نافع، ولا عن ابن عمر، ولو سلّمته لك تسليم عدل أو تسليم انقطاع؛ فما بالك بلص متلصص مما لا قوت له، ولا يرجع إلى كفاية عنده! إن ما معك هو حلال لي؛ فقد روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول اللهﷺ قال: «لو كانت الدنيا دماً عبيطاً؛ لكان قوت المؤمنين منها حلالاً»، ولا خلاف عند جميع العلماء أن للإنسان أن يحيي نفسه وعياله بمال غيره إذا خشي الهلاك، وأنا واللهِ أخشى الهلاك على نفسي، وفيما معك إحيائي وإحياء عيالي، فسَلِّمه لي وانصَرِف سالماً.
فقال القاضي: إذا كانت هذه حالتك؛ فدعني أذهب إلى مزرعتي، فأنزِلُ إلى عبيدي وخدمي، وآخُذُ منهم ما أستتر به، وأدفع إليك جميع ما معي.
فقال اللص: هيهات.. فمثلك مثل الطير في القفص، إذا خرج إلى الهواء خرج عن اليد، وأخاف أن أخلي عنك فلا تدفع لي شيئاً.
فقال القاضي: أنا أحلف لك أني أفعل ذلك.
فقال اللص: حدث مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال:
«يمين المُكره لا تُلْزِم»، وقال تعالى: ﴿‏‏إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾، فادفع ما معك.
فأعطاه القاضي الدابة والثياب دون السراويل.
فقال اللص: سَلِّم السراويل، ولا بُدَّ منها.
فقال القاضي: إنه قد آنَ وقتُ الصلاة، وقد قال رسول الله ﷺ: «ملعون مَن نظر إلى سوأة أخيه»، ولا صلاة لعريان، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿‏‏يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾؛ وقيل في التفسير: هي الثياب عند الصلاة.
فقال اللص: أما صلاتك فهي صحيحة؛ حدَّثَ مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «العراة يُصلُّون قياماً، ويقوم إمامهم وسطهم». وقال مالك: لا يُصلُّون قياماً؛ يُصلون متفرقين متباعدين، حتى لا ينظر أحد منهم إلى سوءة البعض. وقال أبو حنيفة: يصلون قعوداً. وأما الحديث الذي ذكرتَ فهو حديث مُرْسَلٌ، ولو سلّمته لكان محمولاً على النظر على سبيل التلذُّذ، وأما أنت فحالك اضطرار، لا حال اختيار.
فقال القاضي: أنت القاضي وأنا المستقضي، وأنت الفقيه، وأنا المستفتي، وأنت المفتي، خذ ما تريد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأخذ السراويل والثياب ومضى. انتهى.
أوردها ابن الجوزي في كتابه “الأذكياء”.
استذكرت وأنا أقرأ هذه الرواية اللطيفة بعض سراق المال العام في زماننا هذا، فتجد كثيراً منهم صوام قوام، لا تفوته الصلاة في المسجد، حافظ للقرآن، مسارع للخيرات؛ في السر والعلن، واصل رحمه، وسيرته حسنة، وعلاقاته طيبة، وله فيما يأخذ من المال العام تأويلات عديدة، يرخص لنفسه في ذلك، فينام هانيء البال، مليء المال.
وهذه لعمري هي مداخل الشيطان، والتي وقع في حبائله الكثير من الأخيار، والتي يتساءل الناس دوماً: كيف يهنأ له بال، وكيف ينام وهو سارق، وكيف يرتاح وهو ظالم، وكيف.. وكيف..؟!!
فيكون الجواب: قولوا.. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا، اللهم لا تفتنا، واسألوا الله الهداية.
والله انها فتنة، فكم أسقطت دول، وليس أفراد فقط، اللهم سلم.

د.عصام عبداللطيف الفليج

الوسوم
إغلاق
إغلاق