تربية وتعليم
نوادر من حياة فخري البارودي.. «أمير الظرفاء»
كانت الحياة بنظر المجاهد الوطني والظريف الدمشقي فخري البارودي (1886 – 1966) دق طاولة زهر، والنضال الوطني واجباً يومياً كالطعام والشراب.
يؤمن – كما جاء بكتاب “مشاهير وظرفاء القرن العشرين” لمؤلفه هاني الخير – بالنظام والانضباط ولا يستطيع تطبيقه، يؤمن بالمواطن والوطن ويجهل أمراضه، انشأ عشرات المشاريع، تبدأ بمشروع الفرنك، ومكافحة التسول، وتنتهي بإنشاء المعهد الموسيقي العربي، وإحياء الرقص القديم المعروف بالسماح..لكن معظم مشاريعه تعثرت لأنه لم يكن يؤّمن لها وسائل الحياة والمتابعة الجدية والاستمرار.
كانت شعبيته الكبيرة في الشارع الدمشقي ترجع أساساَ إلى قدرته الحطابية إلى جانب حماسه البالغ. وكان يتقن أسلوب استخدام لغة التخاطب مع الجماهير، وكان يحمل خطبه بالنوادر ويعرف كيف يضحك جماهيره.
وكان البعض في سوريا يميل إلى اعتبار فخري البارودي نكتة وطنية، ويقولون إنه سياسي غير جاد. ومع ذلك أثبت قدرته وشعبيته لدى الجماهير من على منصة الخطابة مما جعل حماس الناس له يفوق قدراته السياسية.
بين الجد والهزل
كان الراحل يحرص على ألّا يغيب الحسن والوجه الجميل عن مجالسه..وقد عرف خصومه عنه ضعفه أمام الجمال فراحوا ينفذون إلى الهجوم عليه من هذه الزاوية الواسعة، كان في وسعه أن يعطي بلاده أكثر مما أعطى لو لم يمزج المرح بالسياسة، والجد بالهزل.
وكانت حجته في الدفاع عن نفسه أنها حياته وهو حر في حياته..وكان يقول: “لم أفعل ما يستحق الذكر خلال حياتي..وكل ما فعلته علاك بعلاك”.
وكما يشير الكتاب فإنه للحقيقة والتاريخ، نذكر أن فخري البارودي شارك مع “لورانس العرب” في نسف القطارات التركية وتمتعا بلذة القتال والقتل، كما عاون الثوار في دمشق بإمدادهم بالمؤن والسلاح من أجل مقاومة الاحتلال الفرنسي.
فخري البارودي وصباح فخري
ولعلّ من أبرز الفنانين الذين رعاهم البارودي، وسهر على توجيه مواهبهم الفنان صباح فخري، الذي تقول هويته أنه مواليد عام 1933، ويحمل اسم صباح الدين الشيخ محمد أبو قوس. لقد عرفه البارودي فتى صغيراً، فتوسم فيه الخير، وتنبأ له بمستقبل فني باهر، فأطلق عليه اسمه، وبذل في توجيهه وتعليمه وتدريبه كثيراً من ماله ووقته. ولمع اسم صباح فخري بعدئذ، واحتل مكانة فنية يحسده عليها كثير من أهل الفن والطرب.
مجلس القاضي
يقول المرحوم فخري: كنت يوماً في محكمة عمان فجاءني رجل أقامت عليه زوجته الدعوى بطلب النفقة، يطلب مني مساعدته فقلت له: أجبني بالله هل أنت قائم بوظيفة الزواج حق القيام؟ قال: دعني فإني مريض ليس لي قوة على ذلك. قلت له: ألديك من المال ما يكفي إعاشة الزوجة؟ قال: والله إني لا أجد ثمن رغيف الخبز فصفعته على قفاه وقلت له: اذهب ما دمت لا تفعل شيئاً وقلت:
من شاء يحيا سعيداً دائماً أبداً مع زوجه وهو عن أعمالها راضي شيئان أيُّهما قد صحّ في يده كافِ لإبعاده عن مجلس القاضي خير وشئ وإن صحّا معاً فله سعد السعود وبال ناعم “فاضي”
ويقول أيضاً البارودي:
دعتني وزارة المعارف إلى بلودان – في دمشق – لحضور جلسة من جلسات مؤتمر الأدباء. فذهبت وذلك في سنة 1956، وقضيت ليلة بين أدباء العرب وأكثرهم من أصدقائي وإخواني. وفي نهاية السهرة أجبروني على النوم في الفندق الكبير في بلودان.
ولما لم يكن معي منامة “بيجامة” ذهب شاعر شباب النيل الصديق “أحمد رامي” وأحضر لي “بيجامة” وسلمني إياها بيده وعرف رقم غرفتي وذهب.
وما كدت أقلع ثيابي إلّا وباب الغرفة يقرع ودخل غلام جميل وضع على المنضدة كيساً صعيراً فيه شئ من الكمثرى، وضع الكيس وقال: هذا من أحمد رامي وذهب بسرعة دون أن يقف لحظة فحضرتني البديهو فقلت:
يا رامي القلب كمثراكم وصلت مع الرسول فأهلاً بالحبيبيين أهلاً بنجم سرى كالشهب مسرعة أو قبلة تتهادى بين ثغرين أو بسمة من شفاه الحب خاطفة أو لمحة النور مرت عبر جفنين
وفي الصباح أرسلت له الأبيات، فكانت حديث قوم، وانتشرت بسرعة بين المؤتمرين، وجاءني رامي مسرعاً يشكرني على الأبيات فقبلته، فقال لي رامي: إنها قبلة لرامي ورسوله – يقصد الغلام الجميل –فكانت نكتة الأسبوع.
ملحن جغرافيا
عندما زار أمير الشعراء أحمد شوقي دمشق عام 1928 كان البارودي على ما يبدو مفلساً فأسرع إلى قريته في بلدة دوما، وباع أرضاً من الزيتون، ودعا أمير الشعراء وكان برفقته الموسيقار محمد عبدالوهاب، ودعا كذلك نخبة من كبار الموسيقيين والعازفين إلى سهرة أنيقة في داره.
ويروي البارودي أنه في هذه السهرة كلف الموسيقار الكبير بتلحين نشيده الوطني المعروف:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان فلا حدّ يباعدنا ولا دين يفرقنا لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان فطلب منه عبدالوهب أن يستبدل كلمة “تطوان” بغيرها، فاعتذر فخري البارودي وقال له: إن تطوان هي بعض حدود بلادنا العربية ويستحيل تغييرها. فتبسم عبدالوهاب وقال: إنت فاكرني يا فخري بيه ملحن جغرافيا؟، ورفض تلحين النشيد الذائع الصيت والمحبب إلى قلوب العرب.