مقالات وكتاب
يوم يأتي تأويله
بقلم: يحيى الدخيل
في الفيزياء الكم Quantum Physics اكتشف العلماء أن دوران
الإلكترون حول النواة مضاد لعقارب الساعة بينما دوران الجزيئات داخل النواة مع عقارب الساعة ، وبعدها ظهر اكتشاف أقوى عندما وجدوا أن الجزيئات داخل النواة لها حركة أيضا وأن هذه الحركة تارة وجدت مع عقارب الساعة وبدراسة أخرى كانت الحركة عكس عقارب الساعة ، وبدراسة ثالثة وجدوها حركة غير منتظمة (حركة فصامية ) .
ولكن الاكتشاف الذي هز الأوساط العلمية هو أن الحركة داخل كل جزيء والذي هو في كل نواة من ذرات الكون ، هذه الحركة تتأثر بالفكرة ، أي أن الشخص الذي يفكر أنها تتحرك يمينا تتحرك يمينا والعكس صحيح وعندما يفكر المراقب لهذه الحركة أنها تتحرك عشوائيا تتحرك عشوائيا ،
وهذا من أخطر اكتشافات القرن الحالي في فيزياء الكم .
(مصدر المعلومة : د.صلاح الراشد في أحد اصداراته وفيه ستجد مصادر هذه الدراسات ) .
أريد أن أستنتج من هذا الاكتشاف أن الناس فيما يعتقدون في جميع مشارب الحياة جانب من الصحة من حيث التطبيق والنتيجة التي تحصل لهم من هذا الاعتقاد في الدنيا ، فمن يعتقد بشيء يتحول هذا الاعتقاد دون أن يشعر إلى نتيجة وواقع يبنى عليه قوة اعتقاده ، طبعا دون أن نخوض في صحة هذا الاعتقاد أوصحة الظن من عدمه ، ولكن مجرد الظن ثم انتقال الفكرة من شك إلى يقين ثم اعتقاد تبدأ النتائج تسير في نفس الاتجاه ، وهذا يصدقه الحديث القدسي الشريف : في قوله سبحانه :
( أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء إن خيرا فخير وإن شر فشر) ، واستشهد كذلك بقوله تعالى :
( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محذورا ) فأحد المعاني والتفسيرات لهذه الآية قريبة مما أريد ، والأمر لجميع العباد وليس المسلمين فحسب كما يتضح من نص الحديث والآية ، وفي آية أخرى بسورة الزخرف :
(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة … ) ، فبهاتين الآيتين يتبين أن الله سبحانه ليس فقط ترك الحرية للناس في اعتقادهم بل يعطيهم ما يستدرجهم به لأنهم استحقوا الاستدراج ، طبعا مع تبيانه للحق من قبل ومن بعد بكتبه ورسله والعهد الذي أخذه على البشر في بداية الخلق (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ..) فربنا عز وجل يمد الناس بما يتوافق مع اعتقاداتهم فحياة الفرد ستتوافق إلى حد كبير مع هذا الظن والاعتقاد – سواء كان حقا وصواب أو غير ذلك .
وفي جانب الرزق وانفتاح الدنيا وانسيابها ، وهو أحد الجوانب التي يستدل بها البعض على صحة مسارهم أو حب الله لهم ، نجد في دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى في سورة البقرة : ( رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) أي ارزق يا رب فقط من ساكني مكة من آمن بالله واليوم الآخر ، فكان الجواب من الله عز وجل :
( قال ومن كفر ) أي أيضا من كفر أرزقه وأمتعه في الدنيا ، ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير . فالدنيا وعطائها وحظها ليست معيار على صحة المنهج أو المعتقد أو الصواب والخطأ ،
فالحق والصواب من عدمه يظهر للجميع عيانا يوم الفصل يوم يأتي تأويله ، ففي الآخرة يفترق الحق عن الباطل بالنتيجة النهائية أما النتائج الدنيوية فهي كما يظن ويعتقد الفرد .
وهذا والله أعلم أحد قوانين وسنن الكون الإلهية التي قدرها الله على الخلق .
وهنا نرجع إلى عنوان المقال الذي فكرت فيه طويلا وتأملت في عدد من النظريات العلمية والفكرية ، يقول تعالى في سورة الأعراف : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوما يؤمنون ، هل ينظرون إلا تأويله ، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) الآية
وانظر إلى جواب من ضل بالدنيا والذي نسوه ، يقولون : ( قد جاءت رسل ربنا بالحق ) ، فالحق والصواب هو قول الرسل وما جاءوا به حصرا لأنهم رسل مأتمنون من الجليل القدير ،ولا عبرة لغيرها من الأقاويل والتفسيرات والمناهج مهما صحت تطبيقاتها العملية أو شهرة قائلها وانتشار أقواله ونظرياته .
فالحق هو الحقّ مهما اختلفت الـتأويلات في الدنيا ولكن الله عز وجل أرجأ الفصل بين الخلافات إلى يوم يأتي تأويله .
كم مرة نقرأ في القرآن هذا المعنى : الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون – فيما كنتم فيه تختلفون …. وبطرق مختلفة ولكن المعنى واحد بأن الله عز وجل ترك الدنيا لاجتهادات الناس فإذا غلبت أهواؤهم ضلوا عن ما جاء به ووضحه لهم أنبياؤهم ،فإن تجردوا وأخلصوا لله وحده واتبعوا أنبيائهم أنار لهم طريقهم وعلّمهم الحق والصواب – كما قال تعالى: ( واتقوا الله ويعلمكم الله ). وهنا أرغب بالتأكيد على كمال الاتباع للأنبياء بحديث واحد فقط في صحيح مسلم ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أخذت مضجعك ، فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل : اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت ، واجعلهن من آخر كلامك ، فإن مت من ليلتك ، مت وأنت على الفطرة . قال ( أي الراوي ) : فردّدتهنّ لأستذكرهنّ فقلت : آمنت برسولك الذي أرسلت ، قال ( أي النبي ) قل : آمنت بنبيك الذي أرسلت .
واستشهد بهذا الحديث الذي يغفل البعض أن أحد مقاصده هو دقة الاتباع الذي كان عليه الصلاة والسلام يعلمه أصحابه في كل شي ، فمن وجهة نظرنا ووجهة نظر الصحابي أنه لا فرق بين قوله (نبيك الذي أرسلت ، وقوله رسولك الذي أرسلت ) ، فكلاهما صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقال ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الدقة في الاتباع والنقل في كل شي ،
قال أبو ذر رضي الله عنه : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما .
فبعد هذه الدقة في نقل رسالة الله والنهج الرباني ، لماذا نحيد ذات اليمين وذات الشمال !!!
وعودة على بحثنا في هذه الآية من سورة آل عمران ( يوم يأتي تأويله )
فما يحدث للناس من أحداث ونتائج بسبب اعتقاداتهم أو ظنونهم ليس بدليل على صحة هذا الاعتقاد أو الظن فكلّ مستعد أن يدلّل بأحداث ونتائج على صحة اعتقاده (مع الاختلاف في الحجج وقوّتها) .
وأزيد هنا بأنه حتى النقاشات والجدل وتبادل الحجج وفوز طرف على الآخر ، أيضا ليس بدليل على صحة معتقد أو ظن أحدهم وخطأ الآخر . وهذا مهم لمن يحاول دوما الاستماتة بالجدل وإثبات صحة حججه وأفكاره ، وأقول إن العبرة في ذلك كله هي بمدى موافقة حججه وأفكاره وما يطرحه مع الهدي الرباني وأقوال وأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومدى صدق نيته وتجرده للحق .
واستحضرهنا قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( لعل بعضكم أبلغ حجة من الآخر فمن حكمت له بأمر ليس له ….) الحديث . وشاهدي من الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أيضا أن التبريرات والحجج في الدنيا ليست بالضرورة أن تكون صحيحة وإن ظهرت للناس كذلك – وحادثة الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع النصراني الذي خاصمه عند القاضي على درعه – وحكم القاضي للنصراني لأنه أبلغ بالحجة مع أن الدرع لعلي بن أبي طالب حقيقة ، وغيرها من الحوادث في هذا الباب كثير . فالأحكام الظاهرة سواء القضائية أو حتى الأحكام الفكرية التي يحكم الفرد بها على أي أمر يواجهه في الحياة أو يعتقد به ، ليست بالضرورة أن تكون صوابا . مهما دلّل وبرهن الإنسان عليها بنتائج وأحداث حجج ، إلّا إذا توافقت مع المنهج النبوي المعصوم الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وختمه خاتمهم عليه الصلاة والسلام بالمحجة البيضاء لأن الأنبياء مصدرهم الحق نفسه سبحانه. بل حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد لا يعلمون إلا ما أطلعهم الله عليه ، و قد يخفى عليهم تفسير نتائج و أحداث الدنيا كما حدث لكليم الله موسى عليه الصلاة السلام مع الخضر عليه السلام بالقصص الثلاث في سورة الكهف ( آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما ) . فما لم يطلعنا الله في هذه الدنيا عليه من علم فلن نعلم حقيقته كاملة يقينا ،
و قد نعلم جزء من الحقيقة ولكن ليست كاملة .
الخلاصة : أن النتائج والاحداث التي تحدث للناس في الواقع واستدلالاتهم بها على صحة معتقداتهم ، قد تتغيّر بتغير معتقداتهم بل وأحيانا ظنونهم وأفكارهم ، أما يوم يأتي تأويله سيعرف الجميع الحق من الباطل ظاهرا عيانا فبصرهم بذاك اليوم حديد ، فيوم يأت تأويله هو يوم الفصل يفصل الله بين الناس فيما هم فيه مختلفين.
وما بدأت به مقالي من اكتشاف علمي خطير في فيزياء الكم
( Quantum physics) بأن الجزيء الذي تتكون منه النواة التي هي داخل الذرة يتحرك حسب تفكير المراقب لحركته .أظن أنه يستدعي الناس لمراجعة أفكارهم وتصوراتهم وظنونهم واعتقاداتهم وعرضها على كلام الله عز وجل وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام مع طلب المعونة والهداية من الله ليس فقط لمعرفة الصراط المستقيم بل الإلحاح للاهتداء لهذا الصراط وهو أحد أسرار تكرار الفاتحة في كل ركعة( اهدنا الصراط المستقيم )
وفي دعاء استفتاح صلاة الليل ، كان يقول عليه الصلاة والسلام : ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم ) رواه مسلم .
طبعا هذا لمن يريد الآخرة ، ومن يريد الدنيا فسيحصل على مبتغاه أو جزء منه بقدر ظنه وقوة يقينه ، وعدم حصوله على ما يريد بالكامل ( أقصد من يريد الدنيا ) له أيضا تفسيرات أخرى تحتاج لمقال منفصل لكي لا أكثر من كم المعلومات على القاريء ولكن الأمر باختصار يرجع لتدبير الله عز وجل أولا و آخرا وحكمته سبحانه الذي وضع السنن والقوانين بهذا الكون فمن يوافقها ويتبع أسبابها يمكن مما يريد ، ومن يبتعد ويخالف السنن ، سيبتعد عن تحقيق وحصوله على مراده بقدر ابتعاده عن السنن والظن الحسن ، والأمر لجميع البشر وليس مقتصرا على المسلمين أو كما أسلفنا ، أسأل الله أن يبصرنا ويهدينا للحق فهو الحق وقوله الحق ونسأله سبحانه أن يزيدنا علما لمعرفة المزيد من السنن الكونية والتدبر في خلقه البديع سبحانه .