مقالات وكتاب

حكاية بوصالح في القصيم

بقلم: د.عصام عبداللطيف الفليج

خرج أبو صالح وجاره الحميم أبو راشد من المسجد بعد صلاة العصر، وتوجها إلى تلة قريبة ومعهما الشاي والقهوة، وأخذا يتبادلان الحديث كعادتهما كل يوم، وتنهد أبو صالح وقال: سبحان الله.. أفكر في هذا الدين العظيم الذي خرج من مكة المكرمة، ووصل إلى آخر الدنيا.
فقال بوراشد: إيه والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: بس لا يغرونك يا بوراشد.. ترى أهل أوربا وأمريكا مساكين، ما لهم من الإسلام إلا اسمه، ما تلقى الإسلام إلا في بلاد المسلمين.
بوراشد: إيه والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: وليس كل ديار المسلمين على الدين الصحيح، فقط البلاد العربية.
بوراشد: إيه والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: ولا يغرونك الذين يقرأون القرآن بمصر والمغرب والسودان وشمال وشرق أفريقيا، لأنهم مبتدعة.
بوراشد: ايه والله يا بوصالح إنك صادق.
بوصالح: ترى حتى أهل العراق والشام، عقيدتهم لك عليها، كلهم صوفية، ما لك إلا الجزيرة العربية.
بوراشد: والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: وإن بغيت الإسلام الصحيح يا بوراشد، تراه بس في السعودية.
بوراشد: ايه والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: إن بغيت الدين يا بوراشد تلقاه في نجد، والباقين خلهم على يسراك.
بوراشد: والله إنك صادق يا أبو صالح.
بوصالح: ولا كل أهل نجد دينهم على الذي في بالك، فيهم شرابين التتن (الدخان)، ويشوفون التلفزيون. لكن إن بغيت العقيدة الصافية؛ تراها عندنا بالقصيم.
بوراشد: ايه والله إنك صادق يا بوصالح.
بوصالح: والله ما هو كل أهل القصيم دينهم على الدين الصحيح، أهل عنيزة واللي حولها يلعبون ورقة، والدش فوق السطوح. إن بغيت الدين والله تراه عندنا ببريدة.
بوراشد: والله إنك صادق يا أبو صالح.
بوصالح: ولا كل أهل بريدة على الدين الصحيح، قاموا يطلعون في استراحات في الصحراء؛ ولا ندري كيف يقضون وقتهم بالصلاة ولا الكلام الفاضي. لكن إن بغيت الدين تراه في حارتنا هذه.
بوراشد: والله إنك صادق يا أبو صالح.
بو صالح: والله يا بوراشد ليس كل أهل الحارة على الالتزام بالدين، أشوفهم يسحبون رجلهم للمسجد كأنهم مغصوبين على الصلاة. والله ما في الحارة على الدين الصحيح إلا أنا وانت يا بوراشد.
بوراشد: والله إنك صادق يا أبو صالح.
هنا التفت بوصالح تجاه جاره وصديق عمره وقال له: يا بوراشد.. أشوفك هاليومين ما تخشع بالصلاة مثل أول، الظاهر ما بقي على وجه الأرض دينه صحيح، وعقيدته صافية إلا أنا، الله يخلف عليكم. انتهى.
تحكي هذه الطرفة الطويلة أزمة نفسية يعيشها بعض أهل تلك الديار، الذين يرون أن الدين الصحيح عندهم فقط، وهذه قاعدة حقيقية عاشوها فترة طويلة من الزمن، وسمعت آثارها قبل سنوات، عندما قال أحدهم لأحد مشايخ الكويت عند زيارته للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: لماذا تأتون الرياض؟ العلم الشرعي عندنا بالقصيم. فتبسم الشيخ ابن باز ولم يعلق.
ولا شك أن لطول القصة مغزى يؤكد عمق تلك القناعة، وذلك الغرور والكبر الذي عاشوه فئة من الناس في تلك الفترة.
لقد اتخذ بعض الناس الدين – عبر التاريخ – ذريعة للسيطرة والحرب، جهلا أو قصدا، لمصلحته أو بالوكالة، ومن هنا انطلقت العديد من الحروب في الجزيرة العربية وغيرها، وكلها باسم الدين ومكافحة البدع ورواد القبور.. وغير ذلك، بأسلوب دراماتيكي مبالغ فيه، وظل النفخ فيهم مستمرا أو مستعرا حتى صدقوا أنهم فعلا الأفضل دينا وعقيدة وفهما على مستوى العالم، وكل ذلك باسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، البريء مما ينسب إليه ومما يقومون به من تكفير وتبديع وغير ذلك.
ولا يختلف أحد على أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله عالم مجدد، وناشر للعلم الشرعي بعدما ابتعد عنه الناس لانشغالهم بأمورهم الحياتية، وباذل للجهد في التوجيه والدعوة، وانتشر علمه في الجزيرة العربية وما حولها، حتى جاءت أجيال جديدة تحمل راية العلم المنقول عن الشيخ، ووضعوا لهذه الدعوة أدبيات، وبدأت الاختراقات السياسية شيئا فشيئا، والدعم المالي لهم، وترويج حكاية من لم يتبعنا فليس منا، وأصبح العلم الوحيد الصحيح هو ما لديهم، وما لدى غيرهم مشكوك فيه!
لاقى ذلك الفكر الأحادي دعما لا محدودا من دول خارجية، وفتحت لهم الحدود الجغرافية للانتشار في العالم، مع تأكيد أن العقيدة الصحيحة هي التي هم عليها، ومن خالفهم ففي الأمر قولان؛ إما البدعة أو عقيدة منحرفة، وبدأوا باتهام المخالفين لهم بالضلال والابتداع، وبأسلوب لاذع، وكبر عنيد، دون احترام لعالم أو شيخ أو محدث، وبالغوا أحيانا إلى حد التكفير، ولا يقبلون في ذلك نقاشا ولا رأيا آخرا.
ولعل من أبرز أسباب ذلك الفكر التوحدي؛ الجفاف العاطفي الذي يعيشونه بسبب البيئة الحادة، وضعف الاهتمام بالجانب الروحي والتربوي، وهذا من جانب معلميهم، والعزلة السياسية والثقافية التي عاشوها، فكثير من المشايخ وطلبة العلم لا يعلمون ماذا يجري في العالم، لعدم سفرهم (أو لمنعهم من السفر) لأسباب مختلفة، واختزال المعلومات التي تصلهم من السلطة السياسية فقط، مع أن القاعدة تقول: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، وطبعا هذا قبل انتشار الانترنت الذي سهل وصول المعلومة، ولكن من يبحث عنها؟!
وعلى سبيل التوضيح، عقدت كلية الشريعة بجامعة الكويت قبل 15 عاما مؤتمرا شرعيا في جنيف، حضره عدد كبير من رؤساء المراكز الإسلامية وأئمة المساجد في أوربا، وشارك فيه عدد من أساتذة الشريعة من الكويت، وارتبطت المواضيع المطروحة بحاجات المسلمين في دول الغرب، وكان الإجماع على أن أفضل ورقة عمل قدمت ورقة د.خالد المذكور، وعلق أحد الأساتذة: السبب ببساطة أنه سافر كثيرا إلى أوربا وأمريكا، وتحاور مع العديد من المسؤولين المسلمين هناك حول أوضاعهم، والقوانين التي تحكمهم، إضافة لمشاركته في عشرات المؤتمرات الفقهية في مختلف دول العالم، مع مختلف المشارب العلمية والفقهية والفكرية، دون إنكار لأحد، فتكونت لديه معلومات تؤهله لإصدار رأي يناسب تلك البلاد، بعكس العديد من المشايخ الذين يصدرون الآراء الشرعية بناء على أوضاع بلادهم.
لقد أصاب الغرور بعضهم لدرجة استصغار كل العلماء في دول العالم، وبالذات الأعاجم منهم، وأن الرأي الأخير رأيهم، والصواب قولهم، وإن وجدت آراء أخرى.. لم يُظهروها (كما قال الشيخ المغامسي)، أو قللوا من شأنها وضعفوها، أو استخدموا قاعدة “سد الذرائع”!
ولا يخفى على ذي لب أن هناك آلاف من علماء المسلمين منتشرين من أقصى الشرق في أندونيسيا، حتى أقصى الغرب في أمريكا، في مختلف العلوم الشرعية، ويتفوق بعضهم على علماء الجزيرة العربية بمرات، لكنهم من أدبهم وتواضعهم يقدمون علماء الجزيرة لأنهم عرب من أحفاد الصحابة والخلافة الإسلامية، ولأنهم يعيشون بين الحرمين، ولأنهم ضيوف، فياله من خلق رفيع.
وقد استخدمت السلطة السياسية في عدة بلدان عربية هذا الغرور، وقلدوهم المناصب، وأغدقوا عليهم الأموال، وسخروا لهم وسائل الإعلام، حتى يأتي الوقت الذي تسحب من تحتهم البساط شيئا فشيئا، هذا إن لم يعتقلوهم، وسلطوهم على بعضهم البعض.. هذا إخوان.. هذا تبليغ.. هذا ضال.. هذا جامي.. هذا سلفي..، ولا تجد من يقول هذا علماني أو ليبرالي إلا ما ندر، وفخار يكسر بعضه، والكاسب معروف، والخاسر الدعوة إلى الله.
قال سفيان بن حسين: “ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟ قلت: لا. قال: فالسند والهند والترك؟ قلت: لا. قال: أفتسلم منك الروم والسند والهند والترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم؟! قال: فلم أعد بعدها”.
أعتذر إن كنت مباشرا في الطرح، ومزعجا ومؤلما في الرسالة، ولكنها أحاديث الناس في كل مكان، وتوجد مواقف وأحداث وتفاصيل أشد إيلاما وإساءة لمكانة العالم أو حتى طالب العلم، ولكنها تذكرة لا بد منها، وكم أوصلت رسائل لبعض أصحابها، إلا أن الكبر كان سلاحهم في عدم الإقرار بخطئهم، وأسأل الله لنا ولهم جميعا الهداية.
وأختم مقالي بهذه الطرفة حتى لا يزعل أهل القصيم؛ يروى أن أحد التجار نزل ضيفا عند أحد أصدقائه في القصيم، وكان لصاحبه ولد صغير، فقال التاجر للولد: خذ هذه خمسة ريالات، جيب لي شي آكله، وفصفص (مكسرات) أتسلى به، وأكل للحمار المربوط هناك، وخذ الباقي لك بخشيش.
عاد الولد بعد لحظات ومعه جحة (بطيخ)، وقال للتاجر: جبت لك جحة بريال، كل اللب، وتسلى وتفصفص بحبها، واعط القشور الحمار يأكلها، والباقي أربعة ريالات بخشيش لي!
فبقي التاجر في القصيم يتعلم فنون التجارة جديد.

 

إغلاق
إغلاق