مقالات وكتاب

بين الانفتاح الناعم والانفتاح السريع

د.عصام عبداللطيف الفليج

تمر المملكة العربية السعودية بمرحلة مفصلية من تاريخها؛ باتجاه الانفتاح نحو العالمية، مثلها مثل جميع دول الجزيرة العربية التي تتوافق معها في التاريخ والدين والعادات والتقاليد، مع الفارق في بعض الأمور، واتسم هذا الانفتاح مؤخرابالاستعجال بشكل ملفت للنظر، رغم أنه كان بالإمكان الاتجاه نحو الانفتاح الناعم دون ضجة إعلامية أو اجتماعية أو غير ذلك، كما كانت من قبل. ولا أعلم إن كان سبب ذلك هو رغبة داخلية حقيقية، أم ضغوط خارجية كما حصل فترة السبعينات والثمانينات من تسخير القوى الدينية لمواجهة الروس بحجة مواجهة المد الشيوعي كما أعلن.
كانت دول الجزيرة العربية منغلقة على ذاتها، بحكم عاداتها العشائرية (لا الدينية)، ففي الوقت الذي كانت تعيش فيه في فقر مدقع، والأعراب يغزون بعضهم بعضا، والحروب بين القبائل من جهة، وبين القرى من جهة أخرى، والسفر إلى الهند والسند وأفريقيا، والغوص على اللؤلؤ، في هذا الوقت كانت بعض الدول المجاورة من أصحاب الحضارات تنعم بالخيرات والاستقرار، وفيها سيارات وطائرات ومصاعد كهربائية وقطارات وسفن بخارية ودور سينما ومسارح وجامعات وقصور.. وغير ذلك، بالضبط كما هو الحال الآن في بعض قرى أفريقيا وآسيا.
ولم تغب تلك المنطقة عن بريطانيا.. الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، فقد درستها بشكل تفصيلي عبر الرحالة والمستشرقين خلال قرنين من الزمان مضيا، واستحوذت على الجزيرة العربية بالكامل بعدة أساليب، ليس منها الاحتلال العسكري رغم سهولته (باستثناء عدن)، ووقعت الاتفاقيات العلنية مع بعضها، والخفية مع بعضها الآخر، واستقرت الأمور، وتوقفت الحروبالعشائرية، وباقي القصة معروفة للجميع.
ولا ينكر أحد دور بريطانيا في نقل المنطقة برمتها إلى التطور والنهضة العمرانية، واستخراج النفط، وبناء محطات توليد الكهرباء وتحلية المياه، وتشييد المستشفياتوالمستوصفات، وتطور العلاج، وتقديم منح تعليمية للدراسة في بريطانيا، ودخول الإذاعة والتلفزيون، وتخطيط المدن المتميز، وتصميم البنية التحتية.. وغير ذلك، إضافة لإقناع “بعض” الدول بإنشاء دستور وبرلمان خاص بها، ولا أعلم لم بعض وليس كل!! وذلك بتقدير الله عز وجل بتسخيرهم لنا، وإلا لكنا ما زلنا على بيوت الطين.
كان ضريبة ذلك التخلي التدريجي عن بعض القيم والعادات والتقاليد، وبعض الأمورالدينية، والانفتاح “الناعم” لطبيعة المجتمعات المنغلقة آنذاك، فالإذاعة والتلفزيون اخترقا البيوت، وأنتجت عشرات التمثيليات والمسرحيات التي تدعو للسفور علانية وأمور أخرى، والسخرية من المشايخ والعلماء (السنة) في الصحافة والفن (ملا مصلح أنموذجا)، والاستهزاء ببعض العادات والتقاليد “البالية” كما أسموها، وكل ذلك تم بالاستعانة بخبراء الفن من مصر العزيزة، التي جاء منها أيضا عشرات العلماء والمعلمين والدعاة الفضلاء.
وانتشرت المسارح ودور السينما، وأقيمت الحفلات الغنائية المختلطة في المسارح والفنادق والأندية، واستضيفت حلبات المصارعة (التمثيلية)، وبثت البرامج التلفزيونية الموجهة لبعض الأفكار الليبرالية، وعينت رموز التيارات العلمانية في معظم المناصب القيادية في الدولة، ولا يخفى على أحد أن العلماني في بلاد العرب أكثر علمنة من العلمانية نفسها.
وسمحت بعض الدول ببيع المشروبات الكحولية بشكل قانوني، وبعضها منعتها، وفجأة انتشرت المخدرات في الجزيرة العربية(بتوجيه عالمي) بشكل كبير، شارك فيها كبار القوم لأجل ثراء عاجل، ولم يعد خنافس الشباب ممنوعا كما كان في السابق، ولم تمنع الفتيات من الخروج بأي زي في الأماكن العامة، حتى أنك ترى الأم المبرقعة تسير في السوق مع ابنتها كاشفة كتفيها، ولا يحق للشرطي سؤال الفتاة التي تركب السيارة مع صديقها، ولا يحق لأحد التدخل إلا إذا وقع الفأس في الرأس وصار الحمل!!!
كل ذلك تم باسم الانفتاح والتنوير – كما زعموا – بتخطيط خارجي ذكي مسبق، إما بقبول وقناعة من السلطة، أو برضوخ محبط، خلال فترة الخمسينات والستينات والسبعينات.
ولم تكن السعودية استثناء من ذلك، فهي ضمن المنهجية العامة للمنطقة، ولكن بأسلوب أخف، فكلنا يذكر حفلات طلال مداح ومحمد عبده وعتاب، وتلتها الجنادرية.
وعندما تغيرت إدارة المنطقة من بريطانيا إلى أمريكا (باستثناء عمان)، تغير الاتجاه إلى الانفتاح الفكري والثقافي، وفسح المجال لما يسمى “الصحوة الإسلامية” التي انتشرت في العالم الإسلامي بوقت واحد، مع تسهيلات واسعة من الحكومات في مختلف المجالات، واستخدموا شبابها لمواجهة الاتحاد السوفييتي بحجة الشيوعية، وأقحموا العباد والبلاد بما لا شأن لنا به، حتى إذا انتهى دورهم اتهموا بالإرهاب!!
رسخت هذه الصحوة قواعد دينية وقيم أخلاقية في المنطقة، بدعم حكومي كبير، مع شيء من التوازن، ونشأت الجامعات الشرعية، وانتشر الاقتصاد الإسلامي، ودعمت البرامج التربوية والأخلاقية. ولعلها من حسنات حكومات المنطقة استثمار القبول الدولي للصحوة بجعلها عمل مؤسسي، حكومي وأهلي، استمرت آثارها إلى هذا الوقت، وبانت نتائجها الطيبة في مواقف عديدة.
وجاء التحدي الكبير من الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله في نصرة فلسطين، وقطع إمداد النفط لأمريكا وأعوان الكيان الصهيوني المحتل، فجاء الرد مباشرة بتخفيض سعر النفط إلى أدنى حد، وإحضار شريك جديد في المنطقة بعد أن أزاحوا الشاه، وزرعوا الفتنة الطائفية في دول الخليج، وأشعلوا حرب الخليج الأولى، ثم احتلال العراق للكويت، وحرب الخليجالثانية، ثم حرب إسقاط صدام، فانقلبت الأمور رأسا على عقب، وأوجدوا خصما جديدا للسعودية، تحت غطاء ديني.
وبذات الانفتاح الناعم.. أطلقت أمريكا مشروعها الجديد في المنطقة “خارطة الشرق الأوسط الجديد” التي لم يأبه لها البعضبحجة استقرار الحدود والدول تحت مظلة الأمم المتحدة، إلا أن الواقع أثبت وجود مخطط كبير لتغيير معالم المنطقة سياسيا وجغرافيا وطبوغرافيا ودينيا ومذهبيا وعرقياوثقافيا، وأعلنت كوندي أنه لا يوجد عدو دائم، وأن العلاقة مع إيران ستعود، وكان احتلال العراق وتغيير سياسته.
وعادت أمريكا إلى طبيعتها باستخدام نظام البلدوزر في التغيير (بدل الكايزن الناعم)، وأشعلت الربيع العربي في المنطقة بعدما كان سلميا، وكان ما كان في الشام وليبيا ومصر وتونس واليمن، ودعمت ما يسمى “داعش” والحوثيين بشكل غير مباشر، وأدخلت السعودية والتحالف في نفق مظلم، والباقي معروف.
هنا شعر المطبخ الصهيوني بأن الطبخة تحتاج شيئا من البهارات، فالشيف هنا كأنه يطبخ جزورا ضخما، فتارة يهتم بالكتف، وتارة يزيد النار على الفخذ، وأحيانا يعيد تتبيل الرقبة الطويلة، فوضع الفلفل الحاد بين الضلوع ليشعل الخلاف الخليجي الأخير بين الأشقاء.. بين القلب والكبد والرئة،وما زال الأمر معلقا.
ووسط هذه المتعة الشوائية، صدرت قرارات سعودية جديدة، مثل قيادة المرأة للسيارة، (ولا نعرف الآن هل سيتوقف الغرب عن نقدالسعودية، أم ما يزال يعتبرها لا تقدر المرأة؟!)، وهو قرار عادي طبيعي وسط دول كلها تسمح للمرأة بالقيادة، ثم توالت بعض الحفلات الغنائية المختلطة.
ولا يعد الاختلاط شيئا جديدا في المملكة، فالعديد من الوظائف بدأ فيها الاختلاط منذ زمن، كبعض البنوك والقطاع الخاص، والمستشفيات والمراكز الطبية، وكلية العلوم في جدة، (التي يباح فيها نزع الحجاب)، وبعض القطاعات الأخرى. وبالتالي هو نهج ناعم منذ فترة طويلة.
أما ظهور المرأة بلا حجاب في شاشات التلفزيون، فهي موجودة منذ فترة طويلة عبر قنوات mbc والعربية والحدث السعودية، وفي العديد من التمثيليات السعودية، وبالتالي أصبح المسرح وتمثيل المرأة بلا حجاب أمام الجمهور أمر عادي، وكذا السينما التي ستعرض الأفلام المتاحة عبر الانترنت، وبالتالي.. لا جديد سوى تقنين ذلك، ومنحه الغطاء القانوني (لا الشرعي).
كل ذلك التغيير عايشته دول المنطقة قبل السعودية، وتعودت عليه وألفته ولم تعد تنكره، خصوصا مع وجود وسائل إعلام مساندة، وبدل استمرار السعودية بالانفتاح الناعم أو التدريجي، جاء الانفتاح البلدوزر والسريع والمفاجئ الذي أربك الناس؛ ما بين مؤيد ومعارض وصامت.
لا شك أن المجتمع السعودي مجتمع محافظ بعمومه، ومتدين بخصوصه، فتجد الليبرالي يحفظ القرآن ويستشهد بآياته، ويعرف العلماني أسس التوحيد والعقيدة، ويعرفون الحق والباطل بحكم التربية والتنشئة والتعليم والبيئة، ولكنه الهوى كما هو حال الأمة، ولنا في آخر قصيدة قالها د.غازيالقصيبي رحمه الله مثالا حيا لذلك.
وكما نعلم أن الغرب لا يعمد في تغيير أي ثقافة لتغيير الجيل الحالي، إنما الأجيال القادمة، وهذا ما يراهن عليه المطبخ سالف الذكر.
وأعتقد أن هذه المرحلة تحتاج إلى التعامل مع كل تلك التغييرات وفق “فقه الواقع” ومستجدات “النوازل”، دون الحاجة إلى إقصاء أي طرف، أو إلغاء أي رأي، والنظر إلى كل أمر بشكل إيجابي وبزاوية مختلفة عما يراه الآخرون، مستذكرين الآية الكريمة “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”، فلدينا نصف الكوب مملوء؛ فلم ننظر إلى الجزء الفارغ، ولم نبك على الماء المسكوب؟!
إن هذه الأمة ولادة، فكل يوم نسمع ونرى رموزا شابة جديدة تقتحم ساحة اليوتيوب وتويتر وأنستغرام.. وغيرها، وتنشر محبتها بين الناس رغم أنهم مغمورون، كما قال النبيصلى الله عليه وسلم: “أمتي كالمطر، لا يدرى.. الخير في أوله أم في آخره”، فلا نيأس ولا نبتئس ولا نحزن، ولنحول المحنة إلى منحة، ولنستشعر الأجر في كل كلمة وحركة وسلوك، والله يحفظ جميع المسلمين من كل سوء، وأن يوفق حكام المسلمين لكل خير، ويرزقهم البطانة الصالحة.

 

إغلاق
إغلاق