مقالات وكتاب
تفشي ظاهرة الأفندي في الكويت
بقلم المفكر: أوس يعقوب الغنيم
في الماضي عانت بعض المجتمعات العربية من ظاهرة “الأفندية” عندما ظهرت طبقة متعلمة ميزت نفسها بلباس غربي (البدلة) الذي يختلف عن اللباس الشعبي (العربي). فكل من تلقى تعليم حديث (آنذاك) أو أنه سافر إلى دولة غربية أو عربية ليتعلم فيها رجع إلى دياره لابسا البدلة التي أصبحت دلالة على المستوى التعليمي، حتى أصبحت وكأنها شهادة. لا شك أن البسطاء ينظرون لكل من لبس البدلة (الأفندي) نظرة مختلفة، فهو المتعلم الذي يتفوق عليهم في الفكر والذكاء وكذلك في الوظيفة، فهؤلاء الأفندية هم الذين سيحضون بالوظائف المرموقة. هذه الظاهرة الاجتماعية دفعت الكثيرين إلى تعلم لبس البدلة فهي أسهل من الحصول على الشهادة، وبخاصة أن الأمر لا يستدعي سوى لبس البدلة وقراءة بعض الصحف والاستماع إلى المذياع ثم الجلوس في أي مجلس والحديث باستخدام بعض المصطلحات. والناس بعدها تطلق عليه لقب “أفندي”، وعندها يقولون راح الأفندي فلان وجانا الأفندي فلان.
نحن في الكويت نواجه هذه المشكلة ولكن بطريقة مختلفة. فمثلا شهادة الدكتوراه ينظر إليها اليوم بأنها شهادة عالية المقام تتيح لحاملها أن يصبح خبيرا ملما عارفا في كل شيء، حتى أصبحت تلك الشهادة تماما مثل بدلة الأفندي. بينما في الحقيقة شهادة الدكتوراه هي عبارة عن إثبات على إن من حصل عليها لديه القدرة على إجراء الدراسات الأكاديمية والبحث العلمي في مجال تخصصه وفقا للطرق العلمية المتعارف عليها. إن الأكاديميين يعلمون تماما أن مستوى الدكتور وخبرته لا يرتبطان بحصوله على شهادة الدكتوراه، وإنما بمدى إنتاجه العلمي المتمثل بالدراسات والمقالات التي يتم نشرها في مجلات ودوريات علمية محكمة. والمتعارف عليه في العالم أن تلك الدراسات أو المقالات لا يتم نشرها في الدوريات القيمة وذات السمعة حتى يتم مراجعتها من قبل علماء للتأكد من منهجيتها ودقتها. لذلك لا يمكن أن نقارن دكتور ينشر مقالاته في مجلات علمية محكمة بآخر ينشر مقالات في صحف دون تدقيق علمي من قبل علماء محكمين ثم نقول عنه أنه خبير.
هناك أكاديميون يبذلون الجهد الكبير في اتباع منهج علمي واضح لقياس وفحص فرضياتهم. فهم يسهرون الليالي في قراءة الأوراق العلمية ثم اجراء التحاليل المختلفة ثم إعداد الدراسة وكتابتها وإرسالها إلى المجلات المتخصصة ليتم التأكد منها حتى يتم نشرها. وكلما زاد عدد تلك المقالات أو الأوراق أو التقارير العلمية المنشورة تراكمت خبرة الدكتور وأصبح في هذه الحالة خبيرا وذلك وفقا لغزارة أوراقه العلمية المنشورة لا وفقا لشهادة الدكتوراه التي حصل عليها وليس وفقا لمقالاته في الصحف أو لقاءاته في الفضائيات.
إن ظاهرة أن يقوم أحد حملة شهادة الدكتورة في كتابة مقالة هنا ومقالة هناك في الصحف المحلية ويظهر لنا في الفضائيات على أنه خبير في مجال ما دون أن تكون له دراسات منشورة ومعتمدة لا تجدها في أي دولة متقدمة. بل أن اكتساب هؤلاء الحظوة يعد ظلما كبيرا على الأكاديميين الذين يعملون بجد وإخلاص لا لخدمة بلادهم فحسب وإنما لخدمة البشرية، وذلك من خلال إضافة المزيد من المعارف في رصيد المجتمع الإنساني. بل أن تجاهل أهمية النشر العلمي في المجلات المحكمة ذات المستوى العالي يشجع على ظاهرة الحصول شهادات الدكتوراه دون الحاجة لها. فمن صرفت عليه الدولة لنيل شهادة الدكتوراه ثم يقعد مع القاعدين دون أن يستمر في اجراء الأبحاث والدراسات ونشرها في المجلات والدوريات المحكمة يعد خسارة للمال العام واستنزاف للمال الذي لو صرف على أفراد نشطين لعزز مكانة الكويت العلمية وساهم بمنفعة المجتمع الدولي.
من المخجل أن يسند لشخص ما وظيفة كبيرة لأنه فقط دكتور كتب مقالات في الصحف أو غرد تغريدة جميلة في تويتر، إن هذا العمل يعتبر هدم للقيم والمباديء التي يقوم عليها المجتمع المتطور وتقويضا للعلم وإهانة للعلماء والباحثين والدارسين. فمن يتقدم لدراسة الدكتوراه في الدول المتقدمة ثم يحصل عليها يعلم تماما أنها بداية حياته العملية، فهو بذلك أصبح قادرا على اجراء البحث العلمي وفقا للأسس السليمة، ومن هنا يبدأ في اجراء الدراسات ونشرها ليصبح بعد ذلك خبيرا في مجاله. لذلك كثيرين منا صادف خبراء أجانب لا يحملون شهادة الدكتوراه، ولعل فينا من درس في جامعات غربية وتم تدريسه من قبل أشخاص لا يحملون شهادة الدكتورة. إن الخبير ليس بالضرورة أن يكون حاملا لشهادة الدكتوراه، بل حتى المجلات والدوريات العلمية العالمية لا تشترط الشهادة لنشر الدراسات، وإنما تشترط أن تكون الدراسة وفقا لمنهج علمي سليم، الأمر الذي يؤكد أن الشهادة كوثيقة إثبات لا أهمية لها في العالم المتقدم لأنهم يؤمنون بالإنتاجية والعمل الفعلي، وأما الشهادة فهي لحاملها.
لذا لو ربطنا في الكويت المستوى العلمي للأفراد بعدد الأوراق العلمية المنشورة في الدوريات والمجلات المحكمة ذات المستوى العالمي لما تفشت ظاهرة الشهادات المزورة. لأن المزور لا يمكن له أن يصل إلى مستوى نشر الأوراق العلمية، وإن فعل فهذا بحد ذاته أفضل شهادة على أنه متمكن في مجال تخصصه ولعلها تفوق شهادة الدكتوراه.
ان الناقد الرياضي الذي يكتب في الصحف وتجرى له لقاءات في الفضائيات لا يمكن أن نعتمد عليه في أن يصبح لاعبا محترفا أو مدربا قادرا على احراز الكأس لفريقه. هذا أيضا ينطبق على الأكاديمي الذي يكتب بالسياسة والاقتصاد والقانون وغيرها من أمور ذات علاقة بسياسة الدولة ونشاطها العام، بل ربما لو كتب مقالته في مجلة أو دورية محكمة لما تمت الموافقة على نشرها بسبب قصورها وضعف منهجها. لذلك علينا أن لا ننجرف بظاهرة الأفندي وأن نكرم العلماء الذين يشتغلون في العلم بإخلاص فالكويت بها عدد كبير من حملة الشهادات بما فيهم حملة الدكتوراه الذين نشرت أبحاثهم ودراساتهم في أرفع المجلات والدوريات العلمية في العالم وعلينا أن لا نظلمهم بتقديم الخامل على حساب من يعمل بنشاط وهمة لصالح الكويت والعالم. حينها ستتوقف مهزلة “جيب شهادة دكتوراه وانقز” وتبدأ مسيرة العطاء والعمل ورفع شأن الكويت في العالم وتسند المهام لمن هو أهل لها لا لمن “يترزز” أمام الفضائيات وتويتر والمقالات في جريدة فلان وفلنتان. إن ظاهرة الأفندي لا تتوافق مع مجتمع يتطلع إلى مواكبة التقدم والتطور، لذا يجب نبذها برفض قفز من لا يستحق إلى مراكز اتخاذ القرار.