مقالات وكتاب
محاكمة اقتصادية

بقلم: عبدالله العبد المنعم
عندما تسأل أي مسلم لماذا حرم الله الربا؟ فسيجيب بنصوص شرعية من القرآن والسنة تؤكد على الحرمة القطعية للربا، هذا السؤال في حقيقته مشروع، والجواب لا ينكره أي مسلم ولا يختلف عليه اثنان، بل يؤمن به إيمانا عميقا من منطلق إيمانه بدين الله عزوجل. لكل أحيانا يظل نفس السؤال عالقا في الذهن عند بعض الناس، ليس شكا بل طلبا إلى زيادة اليقين ، مثله مثل ابراهيم عليه السلام عندما قال الله عنه: “وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”. هنا أراد سيدنا ابراهيم عليه السلام أن يسكن قلبه إلى المعاينة والمشاهدة فيتحول من علم اليقين إلى عين اليقين، لذلك في اشكالية عرض مفهوم الربا نحتاج أن ننظر إلى الحكم الشرعي من زاوية مقاصدية شرعية تتسق مع علة الحكم في التحريم حتى نتحول أيضا من علم اليقين إلى عين اليقين.
و لاشك لو أردنا أن نبسط الموضوع ونستقرئ العلة في النصوص الشرعية، دون الخوض في تفاصيل المسائل والأحكام التي تناولها فقهاؤنا في العلل بالأصناف الربوية الست كالثمنية أو المكيلات أو الموزونات أو غيرها مما هو في نص الحديث الشريف، لخرجنا بصوت رجل واحد أن العلة الكلية للربا هي الظلم .. نعم الظلم.
هب أنك لو طلبت من رجل غير مسلم مثلا أن يقرضك كيلو غراما واحدا – من أي سلعة – على أن يقابلها منك 2 كيلو غرام تردها إليه من ذات السلعة نفسها، ثم سألته السؤال التالي: هل ما فعلناه يحقق مفهوم العدالة؟! حسنا ماذا لو قلنا متر واحد مقابل مترين، أو لتر واحد مقابل لترين، أو لنقل 10 دنانير مقابل 20 دينار مثلا. أكاد أجزم أنه في جميع الحالات والأمثلة السابقة سيجيبك: كلا بل هو ظلم!! .. إنها الفطرة البشرية يا سادة التي أنطقت هذا الرجل غير المسلم فقال للمبادلات المالية الربوية إنها ظلم، وصدق الله تعالى حين قال: “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
أما كمال العدل الإلهي فيتجلى بأبهى صوره في فلسفة التمويل الإسلامي الذي يتخذ من النقود (وحدات قياس للقيمة) وليس كما في التمويل الربوي التقليدي الذي يجعل النقود بحد ذاتها (سلعة للمتاجرة) فينتج عنه توظيف النقود كأداة مالية بالإقراض والاقتراض!! ، هذا هو ما يميز الاقتصاد الإسلامي ككل عن غيره وبالتالي لا تجد فيه إلا ما يجعل من السلع والخدمات أداة للمتاجرة، فالبيع هو قاعدة النشاط الاقتصادي الإسلامي، وبه تتحقق الغاية الربانية التي انشأنا الله تعالى لها بقوله: “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”، وهي عمارة الأرض ولا يمكن أن تتحصل هذه الغاية من خلال الديون بفوائد سواء ثابتة أو مركبة والتي تشغل تفكير المدين بسداد دينه أكثر من تفكيره بتوفير السلعة أو الخدمة للمشتري من خلال العمل والإنتاج مما يؤدي لازدهار الأسواق ونمو النشاط الاقتصادي، وهذا السلوك الأخير – أعني توفير السلع والخدمات – لا يتأتى إلا من خلال التمويل الإسلامي.
ومما يجدر الإشارة إليه في سياق الحديث عن التمويل الربوي، أن أصحابه يؤمنون أن للزمن قيمة في الدين، ليس بصفة استثنائية بل بصفة أصلية عند إنشاء الدين وفي حال الإنظار أو التأجيل، وبالتالي فإن الفوائد المتولدة نتيجة القيمة الزمنية للدين هي مستحقة في نظرهم، وهذا ليس منطقيا طالما أننا سلمنا بأن النقود – وهي منشأ الدَّين – ليست أداة وسلعة للمتاجرة بل وحدة قياس محضة، وإذا وليت وجهك شطر التمويل الإسلامي ستحلظ أن الأمر مختلف تماما، فهناك نشاط اقتصادي حقيقي بسلع وخدمات عن طريق أدوات كالمرابحة والإجارة والسلم وغيرها التي تحقق الكفاءة التمويلية للعقود بين الطرفين، كما أن الزمن في التمويل الإسلامي هو تابع للسلعة لا متبوع، بمعنى أن المعادلة تمثل نقدا يساوي سلعة، لا نقدا بنقد مع زيادة بسبب الزمن، والقاعدة الفقهية تقول: (يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع)، هذا إذا قلنا أن هناك ثمة خطأ.
بعد هذا الاستعراض السريع للفروقات الفلسفية بين التمويل الإسلامي والتمويل الربوي، يتضح لنا علة ومقصد التحريم الكلي للربا وأنه ظلم عظيم للإنسانية، ينبغي للبشرية يوما ما أن تسوقه للمحاكمة وراء القضبان بعد أن فعل بنا ما فعل من جرائم حرب اقتصادية تجلت بشكل لا يدع مجالا للشك في الأزمات المالية العالمية التي عصفت بالعالم والدول، ويبقى السؤال: أما آن للبشرية أن تستفيق؟!!